البيانات والخطابات المفوضية السامية لحقوق الإنسان
في ظل تصاعد المجازر وتفشّي الإفلات من العقاب وازدراء القانون الدولي، تورك يدعو الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى الاستثمار في حقوق الإنسان
16 تشرين الأول/أكتوبر 2024
أدلى/ت به
فولكر تورك، مفوّض الأمم المتّحدة السامي لحقوق الإنسان
في
الدورة الثالثة للجمعية العامة - اللجنة الثالثة للجمعية العامة
سيّدي الرئيس،
أصحاب السعادة،
نعيش لحظة حاسمة وخطيرة للغاية تهدّد حياة الناس وحقوق الإنسان واستقرار الدول وازدهارها.
فالصراعات تشتد حدّة وتتّسع نطاقًا.
ويتمّ ازدراء القانون الدولي الإنساني وسط إفلات كامل من العقاب.
أمّا وعود خطة التنمية المستدامة لعام 2030 فنُكِث بها وراحت تتلاشي.
فيما تغيُّر المناخ والأزمات الأخرى التي تضرب كوكبنا، تتسارع وتيرتها.
ويتم تجريم كلّ صوت منتقد، إذ تُغلَق المساحات المتاحة أمام الناس لمناقشة القرارات المُتَّخَذة والمشاركة فيها.
كما أن الكراهية على أساس الجنس والعرق والدين والميل الجنسي وغير ذلك من الخصائص الأخرى، تتصاعد، ما يؤجج التمييز والانقسامات والعنف.
وفيما تتصاعد كل هذه التهديدات، وأكثر منها بعد، يتمّ تآكل فعالية المؤسسات المتعددة الأطراف بسبب استقطاب المجتمع الدولي إلى كتل متزايدة العداء.
وفي سياق هذه الأزمات تحديدًا تقدّم حقوق الإنسان حلولاً فعالة.
لذا، وفي منتصف ولايتي هذه، وبينما أنتم تنظرون في التقرير المعروض أمامكم، الذي يوجز عمل مفوضيتنا في كل منطقة حول العالم، أود أن أقترح خطوات أساسية من شأنها أن تساعد الدول على حل المشاكل التي تمزق مجتمعاتنا وعالمنا.
أيّها المندوبون الأعزّاء،
ندرك تمامًا أنّ الظلم المتجذّر والطويل الأمد يولّد توترات قد تنفجر أعمال عنف.
وندرك تمامًا أيضًا أنّ الحرب تجتاح مناطق جديدة، إذا لم تُعالج أسبابها؛ وأن آثارها تستمر لا بل تتضخم في الأجيال المقبلة.
فقمع الشعب الفلسطيني الذي طال أمده، وتكرار دوامات الكراهية والموت والدمار في الأرض الفلسطينية المحتلة، وفي بلدان أخرى من الشرق الأوسط، دليل مأساوي على هذه الحقيقة.
لقد حرم احتلال إسرائيل للأرض الفلسطينية مدّة عقود من الزمن، أجيالاً من الفلسطينيين من حقوقهم في تقرير المصير والمساواة والحياة والكرامة وغيرها من الحقوق الأخرى.
ومن الواضح أنه ما مِن مبرر على الإطلاق للفظائع المروعة التي ارتكبتها حماس وغيرها من الجماعات الفلسطينية المسلحة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر بحقّ الإسرائيليين.
ففي السنة التي تلت تلك الحوادث، قُتِل أكثر من 42,000 فلسطيني في غزة، معظمهم من النساء والأطفال، مع استمرار الهجوم العسكري الإسرائيلي المكثف الذي لا هوادة فيه.
لقد شهدنا انتهاكات متكررة لمبادئ القانون الدولي الإنساني الأساسية، وقد ترقى إلى مستوى جرائم الحرب وغيرها من الجرائم الوحشية الأخرى. ولا يمكنني أن أؤكد بما فيه الكفاية على الظروف البائسة التي يعيش الفلسطينيون في ظلّها في غزة.
والصدمة العميقة التي لحقت بالناس في إسرائيل وغزة على حدّ سواء.
فقد نزح أكثر من 1.9 مليون شخص في غزّة، ومعظمهم أكثر من مرّة. وأدت العمليات العسكرية الإسرائيلية إلى تدمير المنازل والرعاية الصحية والبنية التحتية في جميع أنحاء غزة. كما تمت إعاقة المساعدات والمعونة الإنسانية الكافية وحرمان الناس منها بشكل منهجي. ولقي عدد غير معروف من الأشخاص حتفهم بسبب الحرمان من الغذاء والمياه وخدمات الصرف الصحي والنظافة والمأوى والرعاية الصحية. وما مِن مكان آمن والناس مرعوبون. وفي موازاة ذلك، لا تزال الجماعات الفلسطينية المسلحة تتحرّك وسط المدنيين وتحتجز الرهائن وتطلق الصواريخ العشوائية على إسرائيل، في انتهاك صارخ للقانون الدولي.
ترافقت الحرب المستمرة منذ عام في غزة مع تفاقم القمع والعزل العنصري والعنف الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة.
لقد تصاعدت حدة تبادل إطلاق الصواريخ مؤخّرًا بين حزب الله والقوات الإسرائيلية على طول الحدود الإسرائيلية اللبنانية، واستحالت عنفًا متصاعدًا على نطاق أوسع بعد، وتفاقمت خطورة مع دخول القوات الإسرائيلية حاليًا إلى لبنان. وتتزايد الخسائر في أرواح المدنيين والاعتداءات على البنية التحتية يومًا بعد يوم.
أمّا تورّط إيران، وكذلك الجهات الفاعلة غير الحكومية في اليمن والعراق، فيولّد تهديدًا باندلاع حرب أوسع نطاقًا وأكثر وحشية بعد، حرب من الممكن أن تقضي على حياة الشعوب في المنطقة بأسرها، وآمالهم وحقوق الإنسان الخاصة بهم.
وفي مقابل ذلك، نقترب من مرور 1,000 يوم على الغزو الشامل الذي شنه الاتحاد الروسي على أوكرانيا. لقد دمرت الحرب حياة الناس وآمالهم في المستقبل كما أنّها ستترك إرثًا من الصدمات والخسائر للأجيال المقبلة. فالغارات التي يشنها الاتحاد الروسي على المستشفيات والمدارس والمنازل والمحال ترعب المدنيين الأوكرانيين، كما أدى الاستهداف المتكرر لبنية الطاقة التحتية الحيوية إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل متكرّر في جميع أنحاء البلاد.
وكان شهر تموز/ يوليو 2024 أكثر الشهور دموية بالنسبة إلى المدنيين في أوكرانيا منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2022، بحسب ما وثّقته مفوضّيتنا، وقلبي على الأوكرانيين خلال الشتاء المقبل. وقد وردت أيضًا تقارير عن وفيات بين المدنيين في روسيا.
وفي السودان، اندلع نزاع شرس منذ نيسان/ أبريل 2023، حيث يتنافس طرفان متحاربان وجماعات موالية لهما وجهات إقليمية مختلفة، على النفوذ والسلطة. وقد أجبرت الحرب العشوائية والاعتداءات المحدّدة الهدف، بما في ذلك الهجمات ذات الدوافع العرقية والعنف الجنسي، أكثر من 10 ملايين شخص، أي ما يُعادل خُمس السكان، على الفرار من منازلهم.
ويواجه أكثر من 25 مليون شخص الجوع الحاد. فقد أُعلنت المجاعة في أحد المخيمات، وهي تشكّل خطرًا يهدّد 13 منطقة في البلاد. من الضروري للغاية إنهاء هذا النزاع، مع تركيز جهود الوساطة على المساءلة وحقوق الإنسان، بغية منع استمرار التمييز ودوامات العنف المتكررة والجرائم الوحشية.
أحث الدول ذات النفوذ على الإصرار على مختلف الأطراف كي تضع حدًّا نهائيًّا للأعمال العدائية وتتّخذ التدابير اللازمة لحماية المدنيين وتيسير المساعدات الإنسانية التي تشتد الحاجة إليها. ومن الضروري أيضًا وضع حد نهائي لتدفق الأسلحة من الخارج، ويجب أن يشكّل الامتثال لحظر الأسلحة الذي فرضه مجلس الأمن في ما يتعلق بدارفور، أولوية حاسمة.
لا تزال الأزمة في ميانمار تبلغ مستويات مروّعة من اللاإنسانية، مع استمرار الغارات الجوية والضربات المدفعية الأخيرة والاعتقالات الجماعية والتقارير عن عمليات قتل خارج نطاق القضاء بلا هوادة، في ظلّ إفلات خانق من العقاب.
ويدفع المدنيون الثمن الأكبر، حيث تم الإبلاغ عن أعلى عدد تمّ تسجيله من الضحايا المدنيين منذ بدء الأزمة في العام 2021، كما أن مجتمع الروهينغيا لا يزال محاصرًا في ولاية راخين الشمالية، وما مِن مكان آمن يمكنه اللجوء إليه.
أيّها المندوبون الأعزّاء،
لم يمكّن هذا العنف أي أحد من العيش في ظلّ قدر أكبر من الأمان.
فالحروب مدمّرة. وتقضي على الأرواح. وعلى المجتمعات والبنية التحتية والتنمية.
كما تدمر البيئة بشكل فظيع إذ تسمم النظم البيئية وتخنق مستقبل البشرية.
وتسمّم العقول أيضًا. وتقضي على التعاطف. وتولّد الوحشية واللامبالاة القاسية تجاه المعاناة، ما يغذي آلة رجعية تفرز انتقامًا ومعاقبة.
بالإضافة إلى ذلك، يؤدّي الإفلات من العقاب والظلم إلى تآكل القيم المترسّخة في صميم الإنسانية، ويدفع الشباب نحو الأفكار المتطرفة، ما يؤجّج دوّامات جديدة من الدمار والألم.
لا يمكن للحرب أن تنتهي فعلاً إلا عندما يعيد احترام حقوق الإنسان ترسيخ المنطق والعدالة والتعاطف.
وفي خضمّ هذه النزاعات جميعها، يُمنع مراقبو حقوق الإنسان من الوصول إلى العديد من الأماكن. إلاّ أنّ إمكانية الوصول هذه حاسمة.
فالوضوح الذي ينبع من أعمال الرصد التي تنفّذها مفوضيتنا أساسي للإنذار المبكر والوقاية والمساءلة، ولإرساء سلام يتمتّع بفرصة الاستدامة، لأنه يعالج الأسباب الجذرية الكامنة وراء النزاع ويفضي إلى العدالة.
في العام 2023، أشارت البيانات التي تمكنت مفوضيتنا من جمعها، إلى ارتفاع حاد في عدد القتلى المدنيين في النزاعات المسلحة على مستوى العالم، وفي نسبة النساء والأطفال الذين قتلوا أو أصيبوا بجروح.
وفي خضم هذه المجازر المتصاعدة، وثَّقَت مفوضيتنا مرارًا وتكرارًا أنماطًا تشير إلى ارتكاب جرائم حرب وجرائم وحشية أخرى، وإلى تجاهل القرارات الملزمة الصادرة عن مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية.
إن القانون الدولي هو بمثابة صرح بنته الأجيال التي سبقتنا بغية حماية البشرية من التدمير الذاتي. ففي غياب القانون، يسود العنف والظلم والاستغلال.
وفي ذاكرة كل دولة من دول الأمم المتحدة تعبير مؤلم عن هذا النوع من المجازر والبؤس، الذي لا يحول دون وقوعه سوى احترام القواعد القانونية.
ومع ذلك، يبدو أنه في كل أسبوع يتم تجاوز الخطوط الحمراء. إذ يتمّ ازدراء الحد الأدنى من المتطلبات الأساسية، أي احترام السيادة وقانون الحرب وحقوق الإنسان.
وبكل تواضع، تبذل مفوضيتنا كل ما في وسعها لتسليط الضوء على مثل هذه الأعمال والدعوة إلى المساءلة والاحترام.
أيّها المندوبون الأعزّاء،
تشكّل خطة التنمية المستدامة لعام 2030 أداة أساسية لحقوق الإنسان تعالج الأسباب الجذرية الكامنة وراء أي نزاع وتعد الجميع بحياة كريمة.
لكن أهداف التنمية المستدامة تتهاوى بشدة. ويشير التقرير بشأن التقدّم المحرز نحو بلوغ أهداف التنمية المستدامة إلى أنّ 17 في المئة فقط من الغايات تسير على المسار الصحيح. والتقدم المحرز في 50 في المائة منها ضعيف وغير كافٍ. كما أن التقدم المحرز في أكثر من ثلث أهداف التنمية المستدامة قد توقف أو تراجع إلى ما دون مستويات العام 2015، حينما تم تحديد الغايات.
وقد تم القضاء على كل التقدم الذي أحرزته الدول منذ العام 2005 في الحد من الجوع.
تزيد الآثار المضاعفة للصراعات والأزمات المناخية والاضطرابات الاقتصادية الناجمة عن جائحة كوفيد-19 من تعميق أوجه عدم المساواة القائمة أصلًا داخل البلدان وفي ما بينها.
وتؤدي الآلام الاقتصادية إلى العديد من النتائج السيئة. فهي تعيق تنمية الأفراد ومجتمعاتهم المحلية ومجتمعاتهم ككلّ واقتصاداتهم الوطنية بأكملها. ومن الممكن أنّ تولد سلسلة طويلة من التوتّرات وأعمال العنف.
لكنّ الحكومات في العديد من البلدان النامية لا تستطيع الاستثمار في الحق في الغذاء ولا الحق في الصحة ولا الحق في التعليم ولا في العديد من الحقوق الأساسية الأخرى، لأنها مكبلة بالديون وبقواعد عالمية غير عادلة بشأن الضرائب وغيرها من القضايا المماثلة الأخرى. وتواجه البلدان النامية فجوة تمويلية تبلغ 4 تريليون دولار لتحقيق أهداف التنمية المستدامة كما تفتقر إلى إمكانية الحصول على تمويل التنمية بمعدلات معقولة.
ويُعتَبَر الميثاق من أجل المستقبل الذي تمّ الاتفاق عليه الشهر الماضي خطوة أساسية نحو بناء هيكل مالي دولي أكثر إنصافًا يمكّن الدول من الاستثمار في خطة عام 2030 وفي حقوق الإنسان.
أحثّ جميع الدول على دعم الإصلاح العملي للهيكل المالي العالمي كأولوية من أولويات حقوق الإنسان.
كما أنه من الضروري للغاية أن نرسّخ الاقتصادات الوطنية بكلّ حزم في حقوق الإنسان، فتتمكّن من بناء قدر أكبر من الثقة والاحترام، في مجتمعات أكثر استقرارًا وسلامًا، من خلال توزيع فوائد التنمية توزيعًا أكثر عدلًا.
أحثّ الحكومات الوطنية على ضمان أن تسترشد سياساتها الاقتصادية بمعايير حقوق الإنسان، انطلاقًا من الميزانيات والضرائب وصولًا إلى الاستثمارات والأنشطة التجارية.
وبذلك، يمكنها أن تمنح الأولوية إلى العدالة والكرامة، وأن تخفف من أوجه عدم المساواة، وأسمحوا لي أن أشدّد على الجانب التالي نظرًا إلى أهميته، وأن تؤمن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والحقوق المدنية والسياسية، وكذلك الحق في التنمية، والحق في بيئة نظيفة وصحية ومستدامة.
وعلى الرغم من الالتزامات العالمية في مجال حقوق الإنسان، يعيش مليارات الأشخاص حول العالم، بما في ذلك في العديد من أغنى البلدان، محرومين من هذه الحقوق.
وتسعى مفوضيّتنا إلى العمل على مشاريع عملية تهدف إلى تطوير نُهج قائمة على حقوق الإنسان في مجال الضرائب والإنفاق العام، بالتعاون مع السلطات في عدد من الدول، بما في ذلك البرازيل وكمبوديا والكاميرون وتشاد وهندوراس والأردن وكينيا وملاوي وصربيا وأوروغواي وزامبيا وزمبابوي.
في أحد هذه المشاريع، تساعد مقترحاتنا الدولة على زيادة الإيرادات الضريبية بشكل أكثر إنصافًا وعلى إعادة توجيه الإنفاق العام بغية منح الأولوية إلى احتياجات الناس وحقوقهم. وفي مشروع آخر، ندعم مشاركة المجتمعات المحلية، بما في ذلك الفئات المهمشة، في تحديد أولويات الميزانيات المحلية.
وفي مشروع ثالث، تهدف التحليلات والتوصيات المفصلة إلى توفير رعاية عالية الجودة للأمهات والمواليد الجدد بطريقة تستجيب لاحتياجات الفئات المهمشة وحقوقهم، بما في ذلك الأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع والشعوب الأصلية.
وتنطوي مجموعة أخرى من المشاريع على مساعدة الدول على تحسين إمكانية وصول العمال إلى برامج الضمان الاجتماعي، لا سيما العاملين في الاقتصاد غير الرسمي، وذلك بالتنسيق مع منظمة العمل الدولية.
قد بلغ هذا العمل مراحل متقدمة في إثيوبيا وكمبوديا وتيمور-ليشتي، كما يجري تطوير مشاريع تتعلّق بالعمال المنزليين في إثيوبيا ورواندا وتنزانيا وأوغندا وكينيا، على أن تتوسّع الشراكة أكثر بعد في العام 2025.
وبإمكان مثل هذه المبادرات العملية أن تساهم في معالجة الانقسامات السياسية وسدّ الفجوات الاقتصادية، ودعم الدول الأعضاء بهدف الوفاء بوعود أهداف التنمية المستدامة، والمساعدة في نقل المجتمعات من الاضطرابات والانقسام إلى مزيد من التضامن والاحترام.
أيّها المندوبون الأعزّاء،
يجب أن نستخلص العِبَر من دروس الماضي. فحقوق الإنسان توفّر ثروة من المنافع لجميع المجتمعات.
فالمساواة التي تشجع كل فرد على المساهمة بكامل طاقته، تعود بالنفع على المجتمع بأسره. كما أنّ الاعتراف بالمساواة بين جميع البشر، والحق العالمي في المشاركة في الحياة العامة، أساسيان لبناء الثقة بين الناس والدولة، وفي ما بين مختلف الأفراد.
لقد شهد العديد من أعضاء هذا المجلس الكريم كيف يمكن أن يساهم التصدي للتمييز ضد الأقليات والمحرومين من حقوقهم في بلسمة الجراح وبناء مجتمعات أكثر قدرة على المواجهة والصمود.
والانتكاسات التي نشهدها اليوم في مجال المساواة بين المرأة والرجل مروعة للغاية. فهي تجرح ظلمًا ملايين النساء والفتيات، وتحرم المجتمع بأكمله من مساهمات جميع أفراده.
ففي أفغانستان، نقلت القيود التي فرضتها حركة طالبان على النساء والفتيات، اضطهادهنّ المُمَنهَج إلى ذروة جديدة، ما قوّض التنمية الاقتصادية والاجتماعية في كافة أنحاء البلاد.
ومكافحة التمييز ضد المرأة، وضد المنحدرين من أصل أفريقي والشعوب الأصلية، وضد أي مجموعة أخرى، على أي أساس كان، إن العرق أم اللغة أم الوضع من الهجرة أم الإعاقة أم السن أم الميل الجنسي أم الهوية الجنسانية أم أي سمة أخرى، تشكّل محور التركيز الأساسي لكل جانب من جوانب عملنا. فكلٌّ من الشمولية والتنوع واحترام الآخر يعزز كل مجتمع.
كما أنّ الحيّز المدني الواسع المفتوح الذي تسوده حرية التعبير والتداول الحر للمعلومات يخلق القدرة على المواجهة والصمود. فهو يوسّع الأفكار ويتحدى الافتراضات ويساهم في إيجاد حلول للتحديات التي تواجهنا.
والمشاركة في الحياة العامة، بما في ذلك من قبل النساء والأقليات والشباب، تعزّز الاهتمام بمظالم الناس واحتياجاتهم، مع حوكمة أكثر استجابة ومساءلة.
ومع ذلك، وفي ظلّ تزايد عسكرة عالمنا، يتمّ تآكل التماسك الاجتماعي فيما تتصاعد الميول الاستبدادية. كما تتم مهاجمة الاحتجاجات المشروعة، وتقييد الحيّز المدني، وفي العديد من البلدان، تكتظّ السجون بالموقوفين.
لكن النهج الرجعي والمتحجّر والإفراط في فرض الأمن، لا يؤدي إلى مجتمعات أكثر أمانًا ولا إلى عالم أكثر أمانًا.
بل يجعل المجتمعات أكثر عرضة للنزاعات. والعالم أكثر استعدادًا للحرب.
علينا إعادة بناء عالم قوامه الانفتاح والثقة والاحترام.
واحترام القانون، الذي اتفقت عليه الدول لحماية شعوب العالم من الظلم والعنف والأذى الذي لا يُحتَمَل.
واحترام الدبلوماسية والوساطة، اللتين تغذيان الحلول القائمة على التعاون وثقافة السلام.
والاحترام المتبادل، وحقوقنا المشتركة والمتساوية والعالمية، التي تعبر عن الروابط التي توحدنا جميعنا.
واحترام الأجيال التي ستخلفنا، أجيال المستقبل.
أيّها المندوبون الأعزّاء،
سيواجه أحفادنا عواقب العديد من القرارات التي نتّخذها اليوم.
وتقوّض أفعالنا، أو تقاعسنا عن العمل، حقوقهم في ما يتعلّق بتهديدين ناشئين.
أولهما هو التطور الجامح للتكنولوجيات الرقمية، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية والأسلحة الفتاكة الذاتية التشغيل، الذي يتجاوز بسرعته الجهود المبذولة لتنظيم مخاطره.
ثانيًا، تثير أزمة المناخ وانهيار النظم الإيكولوجية القلق البالغ.
لا يمكن بيع حياة الناس وحقوقهم، بما في ذلك الحق في الخصوصية والحق في مناخ آمن وبيئة آمنة، إلى مصالح الشركات، سواء كانت الوقود الأحفوري أم التكنولوجيا الرقمية.
وخلال الشهر الماضي، وفي سياق القمة من أجل المستقبل، حدّدت الدول آفاق التعددية الأكثر فعالية وترابطًا وشمولية، وهي التعددية القادرة على معالجة تهديدات اليوم والغد.
ويشير الميثاق من أجل المستقبل، بما في ذلك إعلان الأجيال المقبلة والاتفاق الرقمي العالمي، إلى مستقبل مترسّخ في الكرامة والعدالة وحقوق الإنسان للجميع.
وستواصل مفوضيتنا الدعوة إلى اعتماد أطر للحوكمة، تركّز على العمل الذي من شأنه أن يعزز حقوق الإنسان، لا أن يتسبّب في تآكلها.
وعقب الاحتفال بالذكرى السنوية الـ75 لاعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان العام الماضي، استخلصت مفوضيتنا دروسًا وردت في وثيقة بالغة الأهمية.
وهي حقوق الإنسان: مسار إلى الحلول، التي تتضمّن رسائل توجّه العمل المتجدد من أجل السلام، والاقتصادات التي تعمل لصالح الشعوب وكوكبنا المشترك، والحوكمة الفعالة والخاضعة للمساءلة، والحواجز التي تحمي حقوق الإنسان من التقدم الرقمي والعلمي.
ومفوضيتنا في خدمة جميع الدول الأعضاء وجميع المجتمعات، من أجل مساعدتها على الاستفادة الفعالة من حقوق الإنسان.
لن يعجب دومًا ما نقوله الحكومات والجهات الفاعلة الأخرى. لكنني أحثكم على عدم قتل حامل الرسالة، والتركيز بدلاً من ذلك على تعزيز هدفنا الأساسي المشترك المتمثّل في تعزيز حقوق الإنسان وحمايتها للجميع في كل مكان.
أحثكم جميعًا على الاستفادة من هذه المؤسسة على أكمل وجه، فلمفوضية الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان القوية ومنظومة حقوق إنسان السليمة والمزوّدة بما يكفي من الموارد، فائدة ومنفعة يستفيد منهما العالم أجمع.
وسنواصل دعم العمل البالغ الأهمية الذي يقوم به مجلس حقوق الإنسان، واستعراضه الدوري الشامل وإجراءاته الخاصة، فضلاً عن هيئات المعاهدات التي يغذي عملها جوهر القانون الدولي لحقوق الإنسان.
وسنسعى جاهدين كي نكون مهيّأين لمواجهة المستقبل، من خلال شراكات متجددة، وهيكل داخلي مبسط، وتركيز جديد على تحليل البيانات والاستشراف الاستراتيجي لتحديد المخاطر المحتملة التي تهدّد حقوق الإنسان ومعالجتها.
إن حقوق الإنسان استثمار يستحق أن نقوم به. أمّا عمل مفوضيتنا فمفيد للغاية لعالنا.
علينا أن نغتنم الفرص المتاحة أمامنا، بما في ذلك عبر متابعة ميثاق المستقبل، بهدف بناء السلام المستدام والتنمية والازدهار والعدالة.
ونتطلع إلى أعضاء هذه اللجنة للحصول على دعمهم في بناء التحالفات وحشد الموارد، بما يتناسب مع هذه المهمة ومدى إلحاحها وحجمها.
وشكرًا.