البيانات والخطابات المفوضية السامية لحقوق الإنسان
حقوق الإنسان تقينا شرّ السلطة المطلقة
09 أيلول/سبتمبر 2024
أدلى/ت به
فولكر تورك، مفوّض الأمم المتّحدة السامي لحقوق الإنسان
في
الدورة الـ57 لمجلس حقوق الإنسان
سيدي الرئيس،
أصحاب السعادة،
أيّها المندوبون الأعزّاء،
يصادف الشهر المقبل مرور عامين على تولي منصبي كمفوض سامٍ.
وأود في هذه المناسبة أن أبتعد، خلال عرضي آخر المستجدّات العالمية، عن سرد الأوضاع القطرية المختلفة كما جرت العادة وأن أعرض بدلًا من ذلك بعض الأفكار الأوسع نطاقًا حول حالة حقوق الإنسان اليوم في منتصف ولايتي.
يبدو لي أننا العالم أمام مفترق طرق. فإما أن نستمر في مسارنا الحالي، وفي ’الوضع الطبيعي الجديد‘ الماكر، ونهيم على وجهنا نحو مستقبل بائس. إمّا أن نستيقظ من سباتنا ونغير الأمور نحو الأفضل، خدمةً للبشرية والكوكب.
لا يمكن أن يستحيل ’الوضع الطبيعي الجديد‘ تصعيدًا عسكريًا شرسًا لا نهاية له وأساليب ”متقدمة“ تكنولوجيًا، مرعبة ومروّعة، تُعتَمَد في الحروب ومن أجل السيطرة على الآخرين وقمعهم.
لا يمكن أن يمسي ’الوضع الطبيعي الجديد‘ استمرار اللامبالاة إزاء ترسيخ عدم المساواة داخل الدول وفي ما بينها.
ولا نشر المعلومات المضللة على الجميع مجّانًا، وخنق الحقائق والقدرة على اتخاذ خيارات حرة ومستنيرة. ولا الخطابات المحتدمة والإصلاحات المبسّطة، ومحو السياقات المختلفة والقضاء على الفوارق والتعاطف. ولا يمكن أن يمهّد الطريق أمام خطاب الكراهية والعواقب الوخيمة التي تنتج عنه حتمًا.
لا يمكن أن يعني ’الوضع الطبيعي الجديد‘ أن نقبل بالظلم المدفوع بالجشع، المتمثّل في أنّ الأقلّ مسؤولية عن أزمة كوكبنا الثلاثية الأبعاد يتحمّلون أسوأ انعكاساتها. أو أنّ التنمية المستدامة لا تزال بعيدة المنال بالنسبة إلى كثيرين.
لا يمكن أن يستحيل ’الوضع الطبيعي الجديد‘ تحريف السيادة الوطنية لإخفاء الانتهاكات المروعة أو تبريرها.
أو تشويه سمعة المؤسسات المتعددة الأطراف ومحاولات إعادة كتابة القواعد الدولية وتقويض المعايير المتفق عليها عالميًا.
لا يمكن أن يكون هذا هو العالم الذي نصبو إليه كأفراد، لعائلاتنا وأحبائنا ومجتمعاتنا ومجتمعنا العالمي وللأجيال المقبلة.
يمكننا أن نتّخذ خيارًا مختلفًا لا بل علينا أن نتّخذ خيارًا مختلفًا.
وأن نعيد التواصل مع إنسانيتنا المشتركة وطبيعتنا وكوكبنا.
بعبارة أخرى، يمكننا أن نختار أن نسترشد بحقوق الإنسان والقيم العالمية التي نتشاركها جميعنا.
سيدي الرئيس،
إنّ حقوق الإنسان ليست في أزمة. بل القيادة السياسية المسؤولة عن إعمالها على أرض الواقع هي التي تواجه أزمة.
ففي كل مناطق العالم، نشهد ديناميكيات القوى المتجذّرة تبذل قصارى جهدها من أجل الاستيلاء على السلطة أو التمسك بها، على حساب حقوق الإنسان العالمية.
وعلى الرغم من بعض التقدّم المُحرَز، لا يزال شبح النظام الذكوري يلوح في الأفق، بعد مرور 30 عامًا على التعهدّ بالتزامات عالمية في مجال حقوق المرأة في بيجين. كما نشهد انتكاسات مقلقة في قضايا المساواة بين الجنسين التي ظننا أنها حُسمت منذ سنوات. وفي أقصى الحالات، تمحو القوانين والسياسات البغيضة المرأة من الحياة العامة، تمامًا كما هي الحال في أفغانستان مثلًا.
لكن في كل مكان، تكاد الكراهية ومعاداة النساء الخفية حينًا وغير الخفية تمامًا أحيانًا أخرى، على الإنترنت وفي الحياة الواقعية، تتحوّل بصورة غادرة إلى طبيعية. كما تعاني النساء من معدلات فقر أعلى من الرجال في معظم أنحاء العالم. بالإضافة إلى العنف الجنساني، بما في ذلك عنف الشريك الحميم، المتكرر بشكل مدمر ولا يزال مخفيًا إلى حد كبير. إمّا العدالة للضحايا وجهود الوقاية فغير كافية إطلاقًا، ما يتناقض بشكل صارخ مع الوعد بأن "جميع الناس يولدون أحرارًا ومتساوين."
ولا تزال المجتمعات تعاني من العنصرية والتمييز العنصري وكره الأجانب وما يتصل بذلك من تعصب، مدعومة بهياكل السلطة الراسخة والمصالح الخاصة والقصور المؤسسي والقوالب النمطية الضارة، التي غالبًا ما تكون متجذرة في إرث الاستعمار والاستعباد. وعلى الرغم من التقدم المُحرَز، فهو لا يزال متفاوتًا وغير كافٍ. ففي عدد كبير جدًا من الدول، المنتشرة في جميع أنحاء العالم، نشهد أوجه تفاوت اجتماعية واقتصادية متفاقمة. كما تبرز ندرة في السياسات القائمة على البيانات، الضرورية للشفافية والمساءلة عند معالجة هذه الظواهر.
سأقدم في وقت لاحق من هذه الدورة تقريري بشأن العنصرية النظمية وكافة أشكال التمييز المتعدد الجوانب، التي يواجهها الأفريقيون والمنحدرون من أصل أفريقي.
وهناك أيضًا السياسيون، الذين تساهم بعض وسائل الإعلام في إعلاء أصواتهم، ويضحون بالمهاجرين واللاجئين والأقليات ويحوّلونهم إلى كبش فداء، كما جرى خلال الفترات الانتخابية في النمسا وفرنسا وألمانيا وهنغاريا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية، على سبيل المثال لا الحصر. هم يستغلون القلق واليأس، ويحرّضون مجموعة ضد الأخرى، ويسعون إلى تشتيت الانتباه والتفرقة. لقد أظهر لنا التاريخ أن الكلمات البغيضة تؤدي إلى أفعال بغيضة. إن القيادة السياسية المترسّخة في حقوق الإنسان والنقاش القائم على الأدلة هي الترياق الذي يقينا كلّ هذه الشرور. وهذا هو السبيل الوحيد لمعالجة التحديات الحقيقية التي تواجه الناس في مجالات مثل الصحة والسكن والتوظيف والحماية الاجتماعية.
على الرغم من التحوّل العالمي الجذري والمرحب به نحو إلغاء تجريم العلاقات الجنسية المثلية بالتراضي، لا زلنا نشهد اعتماد سلسلة من القوانين بهدف إرساء العقوبات الجنائية أو توسيع نطاقها في بعض البلدان، كما هي الحال في غانا وإندونيسيا والعراق وأوغندا، بما يتعارض مع المعايير العالمية الأساسية التي اتفقَت عليها الدول. وفي نهاية المطاف، فإن مثل هذه السياسات تضر بالمجتمعات ككل، وتترك الناس خلف الركب.
سيدي الرئيس،
في ما يتعلق بعقوبة الإعدام، يشوب الاتجاهَ الإيجابي العام نحو إلغائها في جميع أنحاء العالم، تصاعدٌ حاد في عمليات الإعدام في عدد محدود من الدول، منها جمهورية إيران الإسلامية، لا سيما من أجل المعاقبة على جرائم تتعلّق بالمخدرات، وفي المملكة العربية السعودية أيضًا. وقد أدى ذلك إلى ارتفاع مطرد في عدد الأشخاص المعروف أنهم أُعدموا في جميع أنحاء العالم. ومن الضروري للغاية معالجة هذا الأمر بشكل مباشر، وتقديم الأدلة والحجج السياسية بغية عكس هذا الاتجاه مرة جديدة.
المجتمعات بطبيعتها في تطوّر مستمر. لكن بدلاً من تبني هذه الحقيقة بشكل خلاق، نشهد محاولات لتكميم حريات التعبير والتجمع وتكوين الجمعيات وحرية الصحافة، بما في ذلك في السياقات الانتخابية. إلاّ أنّ هذه الحريات ضرورية للنقاش النقدي وإبراز أفضل ما في المجتمعات والتوصّل إلى حلول للمشاكل المتعددة التي تواجهنا. ومن الأمثلة على ذلك اعتقال عدد من الصحفيين في أذربيجان؛ واعتقال المعارضين السياسيين واحتجازهم ومضايقتهم في مالي وأوغندا وفنزويلا؛ واعتقال المعارضين السياسيين والنشطاء واحتجازهم في تونس؛ واضطهاد المعارضين السياسيين والصحفيين في نيكاراغوا؛ وقمع النشطاء في فيتنام. أمّا في الصين فيستمر فرض قيود لا مبرر لها على الحيّز المدني باسم الأمن الوطني والاستقرار الاجتماعي.
سيدي الرئيس،
يشكّل ’الاستيلاء على الدولة‘ بأشكاله المختلفة إساءة استخدام للسلطة، مع ما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة على حقوق الإنسان.
وتسيطر الجهات الفاعلة الاقتصادية والسياسية القوية على ما ينبغي أن يكون مؤسسات دولة مستقلة، مثل القضاء أو اللجان الانتخابية. فيسكتون الأصوات المنتقدة وينهبون الموارد لمجرد تحقيق مكاسب سياسية ومالية.
نشهد ذلك مثلًا في غواتيمالا حيث تسيء بعض الجهات الرسمية مثل النائب العام، استخدام القانون الجنائي وعملياته من أجل الضغط على المنخرطين في الدفاع عن حقوق الإنسان وتعزيز المساءلة وملاحقتهم.
وفي بعض الحالات، تنخرط مكوّنات من القطاع الخاص في الاتجار غير المشروع بموارد الدولة على حساب تنمية البلد وسكانه، كما هي الحال مثلًا في جمهورية أفريقيا الوسطى أو شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية. كما أنها مشكلة متوطنة في أميركا اللاتينية، بما في ذلك في البرازيل وبيرو.
سيدي الرئيس،
أود أيضًا أن أحذر من أشكال السلطة الجديدة التي تمارَس على حياة الناس وعلى ’الساحة العامة العالمية‘ من خلال التكنولوجيات الرقمية غير المنظمة بشكل سليم أو كافٍ. وهذا يشمل أيضًا الاستغلال الشامل لبياناتنا.
يجب أن تترسّخ حقوق الإنسان، بما في ذلك حماية حرية التعبير والخصوصية، في صميم الجهود المبذولة لتنظيم التكنولوجيات الرقمية وأن تحتلّ الأولوية، في موازاة المساهمة في ضمان وقف العنف والتضليل وخطاب الكراهية والتحريض على الكراهية على الإنترنت. يجب أن نضمن بشكل فعال أن تبقى فوائد التكنولوجيات الرقمية والذكاء الاصطناعي متاحة لمن هم في أمس الحاجة إليها، بغية المساهمة في الحد من أوجه عدم المساواة العالمية وسد الفجوات الرقمية. لذلك يجب أن يكون الاتفاق الرقمي العالمي مترسّخًا في صميم الإطار المعياري لحقوق الإنسان.
سيدي الرئيس،
لقد تناولتُ مرارًا وتكرارًا الأثر السلبي لهياكل السلطة المتأصّلة وإساءة استخدام السلطة على حقوق الشعوب. ومع ذلك، أظهرت لنا حركات مثل تلك المناهضة للفصل العنصري والعنصرية والداعمة لحقوق المرأة والحقوق البيئية، وغيرها من الحقوق الأخرى، كيف يمكن لحقوق الإنسان أن تؤدي إلى تغيير إيجابي في المجتمع، وأن توجّهنا نحو مزيد من العدالة والاستقرار.
فحقوق الإنسان هي المنظم والمصحح لديناميكيات السلطة التي انحرفت عن مسارها.
فعلى سبيل المثال، حملت الحركة الطلابية في بنغلاديش مؤخّرًا حقوق الإنسان كشعلة لها. وتتمتّع البلاد اليوم بفرصة رسم مستقبل جديد، حيث أوضحت الحكومة المؤقتة علنًا التزامها بعملية سلمية وشاملة ترتكز على حقوق الإنسان وسيادة القانون. وتدعم مفوضيتنا السلطات، بما في ذلك من خلال إيفاد بعثة مستقلة لتقصي الحقائق في ما يتعلّق بالانتهاكات الأخيرة المزعومة لحقوق الإنسان، كما تدعم عملية تحقيق المساءلة والمصالحة وتضميد الجراح، وغيرها من الإصلاحات الأساسية التي طال انتظارها.
وفي سياق الانتخابات التي انعقدت في وقت سابق من هذا العام في عدد من البلدان، وتلك المرتقبة في بلدان أخرى، أحث جميع الناخبين على أن يضعوا نصب أعينهم القضايا الأكثر أهمية بالنسبة إليهم، سواء كانت منزلًا أم تعليم أطفالهم أم صحتهم أم وظيفتهم أم العدالة أم أسرهم وأحباءهم أم البيئة، أم التحرر من العنف أم التصدي للفساد، أم الإصغاء إلى صوتهم.
فهذه جميعها من قضايا حقوق الإنسان.
أحثّ الناخبين على أن يسألوا أنفسهم أي من البرامج السياسية أو المرشحين السياسيين سيعمل من أجل إعمال حقوق الإنسان للجميع.
من سيسعى إلى تعزيز تكافؤ الفرص والاقتصادات التي توفر العمل اللائق مقابل أجر لائق؟
أي من الأحزاب السياسية سيلحظ في رؤيته حقوق الإنسان والتضامن بدلاً من تقويضهما؟
وأحث جميع الناخبين على توخي اليقظة. كونوا حذرين من الأصوات الحادة وأصوات ’الأقوياء‘، التي تبخّ ريقها في أعيننا فتعمينا وتقدم حلولاً وهمية تنكر الواقع. وكما قلت سابقًا، اعلموا أنه عندما يتم التضحية بمجموعة واحدة وتحويلها إلى كبش فداء يحمل مشاكل المجتمع، سيأتي دور مجموعتكم حتمًا يومًا ما.
سيدي الرئيس،
قبل 75 عامًا، اعتمدَت الدول اتفاقيات جنيف الأربع، وحدّدَت بموجبها قوانين الحرب واتفقت على التمسك بها، في أعقاب أهوال ودمار حربين عالميتين. وقبل 80 عامًا تقريبًا، اعتمدت الدول ميثاق الأمم المتحدة الذي وعدت فيه بـ’إنقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب‘.
لكن ها نحن ذا اليوم.
مع تخطي عدد لا يحصى من الخطوط الحمراء أو الاستعداد لتخطيها.
قبل عامين تقريبًا في السودان، حيث قمتُ بزيارتي الأولى بصفتي مفوضًا ساميًا، لمست الأمل في النفوس. أما اليوم، فتشهد البلاد إحدى أسوأ الأزمات الإنسانية وأزمات الحماية في العالم، ويغذيها إفلات من العقاب طال أمده، وعاصفة من الصراعات الصفرية الناتج على السلطة والمصالح الاقتصادية المتنافسة واستغلال التوترات العرقية. وتشير التقديرات إلى مقتل أكثر من 20,000 شخص. لا يمكن للعالم أن يسمح باستمرار هذه الأوضاع.
ندرك تمامًا أنّ الحروب تمتد إلى الأجيال المقبلة، ما يعزّز دوامات متكررة من الكراهية إذا بقيت أسبابها من دون معالجة.
وللأسف، فإن الحرب في غزة هي أفضل مثال على ذلك.
فمنذ هجمات 7 تشرين الأول/ أكتوبر المروعة التي أودت بحياة أكثر من 1,200 ضحية في إسرائيل وأصابت العديد الآخرين بجروح، قُتل أكثر من 40,000 فلسطيني على يد القوات الإسرائيلية، وأصيبت عدة آلاف آخرين بجروح، ولا يزال الآلاف تحت الأنقاض في غزة. ويكافح الفلسطينيون كل يوم من أجل البقاء على قيد الحياة. كما نزح أكثر من 1.9 مليون شخص قسرًا في جميع أنحاء القطاع، والكثير منهم أكثر من مرّة. وبعد مرور أحد عشر شهرًا، لا يزال 101 رهينة إسرائيلية محتجزين في غزة. وفي حين أن العدد الفعلي أعلى من ذلك على الأرجح، لا يزال 10,000 فلسطيني تقريبًا محتجزين في السجون الإسرائيلية أو المنشآت العسكرية الإسرائيلية المخصصة، والعديد منهم بشكل تعسفي، وقد توفي أكثر من 50 شخصًا بسبب الظروف اللاإنسانية وسوء المعاملة. أما في الضفة الغربية، فإن العمليات المميتة والمدمرة التي بلغ بعضها نطاقًا لم يشهده العقدين الماضيين، تزيد من تدهور الوضع الكارثي، الذي تفاقم أصلاً بسبب عنف المستوطنين الخطير.
يشكّل إنهاء تلك الحرب وتجنب أي نزاع إقليمي شامل أولوية مطلقة وعاجلة. وفي مقابل ذلك، يجب معالجة وضع عدم الشرعية الأوسع نطاقًا القائم في جميع أنحاء الأرض الفلسطينية المحتلة، الناجم عن سياسات إسرائيل وممارساتها، تمامًا كما أوضحته محكمة العدل الدولية في الرأي الاستشاري الصادر في تموز/ يوليو، معالجة شاملة.
وعلى الدول ألا تقبل التجاهل الصارخ للقانون الدولي، بما في ذلك القرارات الملزمة الصادرة عن مجلس الأمن وأوامر محكمة العدل الدولية، لا بل لا يمكنها أن تقبلها، لا في هذه الحالة ولا في أي حالة أخرى.
يعيش المدنيون في أوكرانيا في دوامة من الرعب، نتيجة الاعتداءات المستمرة التي يشنها الاتحاد الروسي على المرافق المدنية مثل المستشفيات والمدارس ومحلات السوبر ماركت، والموجات المتكررة من استهداف البنية التحتية للطاقة ما يؤدي إلى انقطاع التيار الكهربائي في جميع أنحاء البلاد. قلبي على الأوكرانيين في مواجهة الشتاء المقبل. وقد سعت مفوضيّتنا القلقة بسبب أثر التصعيدات الأخيرة على المدنيين، بما في ذلك في كورسك، إلى الوصول إلى جميع المناطق المتضررة كي تتمكّن من رصد حالة حقوق الإنسان. ويؤسفني أنّ الاتحاد الروسي رفض حتى اليوم السماح بالوصول إلى المناطق المعنية.
لا تزال الأزمة في ميانمار تبلغ مستويات مروّعة من اللاإنسانية، مع استمرار الغارات الجوية الأخيرة والاعتقالات الجماعية والتقارير عن عمليات قتل خارج نطاق القضاء بلا هوادة، في ظلّ إفلات خانق من العقاب. ويدفع المدنيون الثمن الأكبر، حيث تم الإبلاغ عن أعلى عدد تمّ تسجيله من الضحايا المدنيين منذ بدء الأزمة الحالية في العام 2021، كما أن مجتمع الروهينغيا لا يزال محاصرًا في ولاية راخين الشمالية، وما مِن مكان آمن يمكنه اللجوء إليه.
في العديد من هذه الحالات، يتم استغلال حتى الحد الأدنى من المساعدات الإنسانية المقدمة إلى المدنيين أو تحويلها أو منع وصولها من أساسها، تمامًا كما مراقبي حقوق الإنسان. وبالنسبة إلينا نحن المنخرطين في هذا العمل، يبدو الأمر كما لو أننا نقف على ضفاف نهر نشاهد الناس يغرقون وعوامات النجاة مكدسة عند أقدامنا.
وفي حالات أخرى، يتم توجيه العنف إلى منظومة حقوق الإنسان والعمل الإنساني، كما هي الحال مع احتجاز موظفي الأمم المتحدة المشين في اليمن. يجب عدم استهداف موظفي الأمم المتحدة والعاملين في المجال الإنساني.
وسأحيط هذا المجلس علمًا بآخر المستجدات بشأن العديد من هذه الحالات وغيرها من الأوضاع الأخرى في وقت لاحق من هذه الدورة.
أصحاب السعادة،
لقد وضعَت الدولُ نفسُها القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني بهدف الحفاظ على إنسانيتنا المشتركة وضمانها.
تقينا هذه المعايير شرّ أيّ سلطة مطلقة.
وعلى جميع الأطراف في النزاعات والدول الأخرى، لا سيما تلك التي تتمتع بالنفوذ، أن تبذل قصارى جهدها من أجل وضع حد للانتهاكات.
ومن الإجراءات العملية في هذا الصدد أن تمتنع الدول، بما يتماشى مع التزاماتها بموجب اتفاقيات جنيف وبذل العناية الواجبة لمراعاة حقوق الإنسان، عن تصدير الأسلحة أو نقلها إلى أي طرف في نزاع مسلح، حيثما يبرز خطر حقيقي من أن تُستخدم بما ينتهك القانون الدولي الإنساني. ويشجعني أن بعض الدول قد اتخذت بالفعل الخطوات اللازمة في هذا الاتجاه.
سيدي الرئيس،
إنّ العمل في مجال حقوق الإنسان حاسم للسلام.
ولا سيّما منع النزاعات.
والإنذار المبكر عند احتمال اندلاع نزاع.
وإثبات الحقائق الموضوعية والموثوقة لما حدث تحت ستار الحرب، بهدف الكشف عن الحقيقة وتحقيق العدالة لكل ضحية في المستقبل القريب.
وضمان أن تكون مفاوضات السلام شاملة لجميع الأطراف ومقبولة منها، وبالتالي مستدامة فعلًا.
وقد أظهرت اتفاقات السلام المُبرَمَة في تسعينات القرن الماضي، انطلاقًا من دول يوغوسلافيا السابقة وصولًا إلى غواتيمالا وكمبوديا، أهمية إدماج حقوق الإنسان. وفي ليبيريا أيضًا، أدّت مبادئ حقوق الإنسان دورًا تحويليًا في عمليات السلام، لا سيما تعزيز مشاركة المرأة.
وقد انخرطت مفوضيتنا بشكل مباشر في مفاوضات اتفاق السلام في كولومبيا في العام 2016، وما زلنا موجودين في البلاد بهدف المساهمة في إدماج بُعد حقوق الإنسان، ومؤخرًا من أجل تقديم التوجيهات بشأن تفكيك المنظمات الإجرامية ودعم مؤسسات العدالة الانتقالية.
كما أرحب بالتقدم الذي تحرزه نيبال في مجال إنشاء هيئات العدالة الانتقالية المتوخاة في اتفاقات السلام لعام 2006.
وعلينا أيضًا أن نتحد على الصعيدين الوطني والعالمي دعمًا للعدالة.
إن اللحظات الفاصلة في محاكمات نورمبرغ، والأحكام الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة والمحكمة الجنائية الدولية لرواندا، وفي سيراليون وكمبوديا، وأمام المحكمة الجنائية الدولية والمحاكم الوطنية بحكم الولاية القضائية العالمية، تشكّل رسائل واضحة موجّهة إلى الجناة، مفادها أنّ المساءلة قد تمسي شخصية عند ارتكاب هذا النوع من الجرائم.
ويبقى اعتماد إطار معياري واضح وشامل في هذا الصدد أساسيًا. وبالتالي، أرحب بالجهود الحالية التي تبذلها الدول بغية سد الثغرة في الهيكل القائم، والمضي قدمًا في المفاوضات بشأن اتفاقية منع الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية والمعاقبة عليها.
سيدي الرئيس،
يغذّي عدم الاستقرار في الداخل عدم الاستقرار العالمي.
وعلى عكس ذلك، يشكل التضامن والتماسك داخل الدول أساسًا متينًا للتعاون الدولي.
وتمامًا كما أقرت الدول في إعلان وبرنامج عمل فيينا في العام 1993، يشكّل تعزيز جميع حقوق الإنسان وحمايتها شاغلًا مشروعًا للمجتمع الدولي.
وبصفتي المفوض السامي، ما زلتُ ملتزمًا بالنهوض برؤية لحقوق الإنسان في القرن الـ21 تطلعية وموحِّدة وموجهة نحو إيجاد الحلول. وتخاطب كلّ إنسان مباشرة.
ويشكّل التعاون الدولي، المترسّخ في حقوق الإنسان، القناة التي نمتلكها لإحداث التغيير والتصدي للتحديات الهائلة في عصرنا.
إن المؤسسات المتعددة الأطراف، بما في ذلك النظام الدولي لحقوق الإنسان، هي تحت تصرف المجتمع الدولي بغية تمكين الحوار مع قدر أكبر من التمثيل، ومعالجة جذور عدم الثقة وتيسير التقدم. والأهم من ذلك بعد، أن تشكّل حقوق الإنسان صوت العقل، استنادًا إلى الأدلة والحقائق، في أوقاتنا المضطربة، وأن تطوّر التفكير طويل الأجل الذي تشتد الحاجة إليه وأن تقدّم حلولًا عملية للمشاكل الملموسة.
لذلك من الحاسم أن نغتنم بشكل كامل الفرص التي تتيحها منظومة حقوق الإنسان، بما في ذلك مفوضيتنا، وأن نضمن تعزيز حقوق الإنسان وإدماجها بصرامة في الميثاق المرتقب من أجل المستقبل. هذا هو النداء الذي أوجهه إلى كل وفد من الوفود الحاضرة هنا اليوم، في هذه المرحلة الحرجة من المفاوضات.
لقد بنيتم هذا الهيكل المعياري الهائل ’في جوّ من الحرية أفسح‘، ولسبب وجيه. استخدموها وعززوها، بحسن نية وبتواضع، إذ لا يمكن اعتبار أي إنجاز أمر مفروغ منه.
سيدي الرئيس،
من الآن فصاعدًا، أود أن أكون شفافًا بشأن مقاربتي لولايتي والتحديات القائمة والفرص المتاحة.
فأنا أؤمن بالمشاركة وتبادل الآراء الصريحة وإبقاء الحوار مفتوحًا، حتى في وجه الخلافات المحتدمة.
نحن بحاجة إلى أن نتغلّب على النهج المطلقة وعلى ’نحن ضد الآخرين‘ وغياب الفوارق. فالعالم معقد للغاية.
من واجبي أن أتحدث علنًا، كلما كان ذلك ضروريًا، لتوليد أكبر قدر ممكن من الأثر الإيجابي.
تهدف حقوق الإنسان إلى تحدي افتراضاتنا وتحديد المجالات المظلمة. كما تهدف إلى تشجيع التفكير النقدي الذاتي لأنه ما مِن أحد كامل.
فالانتقائية والمعايير غير المتسقة لا تخدم أي طرف، وبالتأكيد لا تخدم ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان أطلاقًا.
فالحجة القائلة بأنّه يجب أن نركّز حصرًا على أكبر أزمات الحاضر، لا تنطبق على قضية حقوق الإنسان.
لأن حقوق الإنسان ’تبدأ في الأماكن الصغيرة بالقرب منا‘ [إليانور روزفلت].
وحقوق الإنسان عالمية وغير قابلة للتجزئة ومترابطة.
من المهم بالنسبة إلي أن أفهم متى ولماذا تقاوم بعض الدول الانخراط بشكل هادف مع مفوضيّتنا. كما أنّ البعض لا يأتي إلينا إلا عندما يواجهون مشكلة في مجال آخر. لذا، ستظل أولويتي هي أن أؤكد لجميع الدول قيمة الانخراط مع المفوضية السامية ومنظومة حقوق الإنسان ككل، لا لمجرّد الانخراط فحسب بل أيضًا من أجل تحقيق تقدم ملموس.
أمّا على الصعيد الداخلي فخصصنا الكثير من الوقت لتصميم خطة تنظيمية تجعل مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان أكثر فعالية واستجابة وملاءمة للغرض، بهدف تحقيق الانتظارات الكثيرة التي تتوقّعونها منا وتلبية طلبات المساعدة والدعم والمشورة التي تردنا. نحن بحاجة إلى تمويلكم الفعال ودعمكم الاستراتيجي والسياسي لمساعدتنا على بلوغ هذه الغاية.
لن يعجب دومًا ما نقوله الحكومات والجهات الفاعلة الأخرى. وهذا متأصل بطبيعة حقوق الإنسان نفسها. لكنني أحثكم على عدم قتل حامل الرسالة، والتركيز بدلاً من ذلك على تعزيز هدفنا الأساسي المشترك المتمثّل في تعزيز حقوق الإنسان وحمايتها للجميع في كل مكان.
وستواصل مفوضيتنا العمل بلا كلل ولا ملل من أجل دعم الضحايا في كل مكان. أحثكم جميعًا على الاستفادة من هذه المؤسسة على أكمل وجه، فلمفوضية الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان القوية ومنظومة حقوق إنسان السليمة والمزوّدة بما يكفي من الموارد، فائدة ومنفعة يستفيد منهما العالم أجمع. وهما يمثلان عائدًا استثنائيًا على الاستثمار بقسم ضئيل جدًا من الموارد المخصصة بكلّ سهولة لمجالات أخرى.
علينا أن نختار جماعيًا رفض ’الوضع الطبيعي الجديد‘ والمستقبل البائس الذي قد يقدمه. فلنعتنق ونثق بالقوة الكاملة لحقوق الإنسان باعتبارها السبيل إلى العالم الذي نصبو إليه، عالم يكون أكثر سلامًا وعدلاً وإنصافًا واستدامة.