Skip to main content

البيانات والخطابات المفوضية السامية لحقوق الإنسان

تورك يدعو إلى بناء اقتصاد قائم على حقوق الإنسان

06 شباط/فبراير 2023

فتاتان تنظران إلى حي كيبيرا الفقير في نيروبي، كينيا.

أدلى/ت به

فولكر تورك، مفوّض الأمم المتّحدة السامي لحقوق الإنسان

في

حلقة عمل بشأن تعزيز وحماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في سياق معالجة أوجه عدم المساواة في التعافي من جائحة كوفيد-19

أصحاب السعادة،
أيّها المشاركون الكرام،

يسرني أن أشارك في افتتاح هذه المناقشات البالغة الأهمية.

لقد شكّلت جائحة كوفيد-19 درسًا قاسيًا سلّط الضوء جهارًا على عالمية جميع حقوق الإنسان وعدم قابليتها للتجزئة. وقد أظهرت الجائحة على وجه التحديد أنّ الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ليست أساسية لكرامة الإنسان فحسب بل إنها أساسية أيضًا لاستقرار البلدان كافة وتنميتها المستدامة. فإذا لم تؤخذ هذه الحقوق على محمل الجد، تنعكس عواقب وخيمة على الناس أولًا وقبل كل شيء، ولكنّها تغذي أيضًا ومن دون أدنى شكّ، انعدام الثقة في مؤسسات الدولة والاضطرابات الاجتماعية والعنف وحتى النزاع.

كما تسببت الجائحة في توليد دوّامات من الفقر المتفاقم، وفي ترسيخ المظالم بشكل أسرع وأعمق، من خلال تقويض ما كان أصلاً إعمالًا غير مكتمل للحقوق في الصحة والتعليم والسكن اللائق والعمل اللائق، وغيرها من الحقوق الأساسية الأخرى.

وكشفت أيضًا عن حجم عدم المساواة في كلّ مجتمعات العالم. وأدّت في كل بلد ومنطقة تقريبًا، إلى تفاقم أوجه عدم المساواة هذه. وكشفت عن تفاوتات عالمية عميقة في الهيكل الاقتصادي والمالي الحالي.

فوفقًا لمجموعة الأمم المتحدة للاستجابة للأزمات العالمية للغذاء والطاقة والتمويل، يتقاضى 60 في المائة من العمال حول العالم اليوم دخلًا حقيقيًا أدنى مستوى مما كان عليه قبل تفشي الجائحة. إلاّ أنّ الجائحة بيّنت جليًا أنّ اقتصاد الرعاية وهؤلاء العمال بالذات هم من أنقذ حياتنا وضمن توفير الخدمات الأساسية لنا. ندرك جميعنا مدى اعتمادنا عليهم - لكنّهم أمسَوا اليوم يتقاضَون أجرًا أدنى من ذي قبل. فما مِن ذرّة امتنان لهم.

ندرك تمامًا أن النساء تعرضن للأسوأ، ويعود سبب ذلك جزئيًا إلى تمثيلهن المفرط في قطاعات محدّدة، منها السياحة والفنادق والخدمات الغذائية، عانت من آثار غير متناسبة. ووفقًا لمنظمة العمل الدولية، انخفضت عمالة المرأة بنسبة 4.2 في المائة في جميع أنحاء العالم، مقارنة مع انخفاض بنسبة 3 في المائة للرجال.

كما أدّى التضخم الذي ولّدته الجائحة ثم تسبب في تفاقمه الحرب في أوروبا، إلى ارتفاع حاد في أسعار المواد الغذائية الأساسية وتسجيلها مستويات لا يمكن أن يتحمّلها العديد من الأسر: هي مأساة صامتة بكلّ ما للكلمة من معنى.

بحلول نهاية العام 2021، كان الجوع يؤثر على 828 مليون شخص، بحسب ما أشار إليه تقرير صادر عن برنامج الأغذية العالمي ومنظمة الأغذية والزراعة والصندوق الدولي للتنمية الزراعية واليونيسيف ومنظمة الصحة العالمية، أي بزيادة قدرها 150 مليون منذ تفشي الجائحة. لقد تم محو أكثر من أربع سنوات من التقدم في مكافحة الفقر. وبدلاً من إنهاء الفقر المدقع بحلول عام 2030، كما كان مخططًا له في خطّة التنمية المستدامة، تُقّدِّر إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية أن 600 مليون شخص، أي شخص من بين كل 14 شخصًا في العالم، قد يعيشون في فقر مدقع في العام 2030.

إلاّ أنّ الأرقام الحقيقية قد تكون أسوأ من ذلك بكثير.

فالتعريف الروتيني للفقر على أنه كسب أقل من 1.90 دولار أميركي في اليوم لا يأخذ في الحسبان التكاليف الحقيقية لتلبية الاحتياجات الأساسية. وأرحب بتركيز الجلسة 3 من حلقة العمل هذه على قياس الفقر العالمي والقضاء عليه من خلال تعريف أكثر واقعية وقائم على حقوق الإنسان لمن هو الفقير بالضبط.

وفي موازاة ذلك، لا يزال تعميق الديون الوطنية وتقلّبات أسواق السلع الأساسية، يقيدان بشدة الحيز المالي للسياسات الوطنية ويمنعها من توسيع نطاق الوصول إلى خدمات التعليم والرعاية الصحية والحماية الاجتماعية الجيدة النوعية.

ومع ذلك، فإن الهدف 10 من أهداف التنمية المستدامة يستهدف على وجه التحديد ضرورة الحد من انعدام المساواة داخل البلدان وفيما بينها. ومن بين مؤشراته ما يلي:

  • تحقيق نمو الدخل لأدنى 40 في المائة من السكان بمعدّل أعلى من المعدل المتوسط بحلول عام 2030.
  • ضمان تكافؤ الفرص والحد من أوجه انعدام المساواة في النتائج، بما في ذلك من خلال إزالة القوانين والسياسات والممارسات التمييزية وتعزيز التشريعات والسياسات والإجراءات الملائمة في هذا الصدد.
  • اعتماد سياسات، ولا سيما السياسات المالية وسياسات الأجور والحماية الاجتماعية، وتحقيق قدر أكبر من المساواة تدريجيًا.

أيّها المشاركون الأعزّاء،

تشكّل هذه الحالة وصفة أكيدة للانهيار الاجتماعي والنزاع، داخل المجتمعات وفي ما بينها. ونحن بحاجة ماسة إلى اتّخاذ تدابير تصحيحية صارمة وفعالة.

لقد حان الوقت كي نفهم تمامًا أن النمو الاقتصادي لن يُعالِج بمفرده المظالم الهيكلية التي تكمن وراء فشلنا في التقدم نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة. علينا تفكيك هيكل عدم المساواة، وإعادة بناء اقتصاداتنا ضمن هيكل يعزز حقوق الإنسان - وبالتالي ييسّر بناء الثقة في الحكومة والتنمية المستدامة والسلام.

علينا النهوض بتعافٍ سليم، من خلال بناء اقتصادات تعزز حقوق الناس ورفاههم.

فالاقتصاد القائم على حقوق الإنسان يسعى إلى معالجة الأسباب الجذرية والحواجز الهيكلية التي تحول دون المساواة والعدالة والاستدامة، من خلال منح الأولوية للاستثمار في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

وإلى ضمان أكبر قدر من الحماية اجتماعية والتعليم الجيد النوعية والرعاية الصحية للجميع.

والوصول إلى العدالة وسيادة القانون.

والعمل المناخي والبيئي الفعال.

والحريات الأساسية وأكبر قدر ممكن من الحيّز المدني.

ويكفل أن تسترشد نماذج الأعمال والسياسات الاقتصادية بمعايير حقوق الإنسان.

كما يتيح مزيجًا متكاملًا من السياسات الاجتماعية والاقتصادية موجهّة نحو البعثات، وتنهض بكل هدف وغاية من أهداف التنمية المستدامة، بما في ذلك على وجه التحديد إنهاء التمييز ضد النساء والفتيات والأقليات العرقية والإثنية واللغوية. فنحن ندرك تمامًا أنّ هذا التمييز يسبب موجةً من الأضرار المتلاحقة على مستوى المجتمع وفي ما بين الأجيال.

ومن خلال القيام بهذه الاستثمارات، يساهم الاقتصاد القائم على حقوق الإنسان أيضًا في تعزيز التوزيع العادل للموارد، ما يخفّف بدوره من عدم المساواة داخل البلدان وفي ما بينها.

أشيد بالجهود الرامية إلى اتخاذ قرارات متعددة الأطراف أكثر شمولًا وتشبيكًا، وإلى إصلاح الهيكل المالي العالمي، وأذكّر بأنّ الأمين العام قد أشار إلى هذه الجوانب في تقريره بشأن خطتنا المشتركة.

يجب ألا تضطر البلدان إلى منح الأولوية إلى الوفاء بالشروط التي تفرضها المؤسسات المالية الدولية أو وكالات التصنيف الائتماني على حساب حقوق شعوبها. ويجب النظر إلى حقوق الإنسان على أنها متأصلة في الأطر القانونية للبلدان وأنها جزء لا يتجزأ من التنمية السليمة والسلام وسيادة القانون. وأرحب بالمقترحات الأخيرة المتعلقة بالإصلاحات الابتكارية للهيكل المالي العالمي، على غرار مبادرة بريدجتاون التي أطلقتها رئيسة الوزراء ميا موتلي.

أيّها المشاركون الأعزّاء،

بغية دعم البلدان والمجتمعات على بناء اقتصادات تعزّز حقوق الإنسان، ستكثّف مفوضيتنا الجهود وتقدّم كل دعم تقني ممكن في مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتعميم معايير حقوق الإنسان ومبادئها وسياساتها في جميع الإجراءات التي تتخذها الحكومات ومنظومة الأمم المتحدة.

إن معالجة الحواجز الهيكلية وضمان إعمال حقوق الإنسان يتطلبان الاستثمار في قدرة مفوضيتنا التشغيلية، كي نتمكن من تلبية الاحتياجات وطلبات التعاون التقني التي تردنا من الدول والشركاء، لا سيما في ما يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

ويجب أن يشمل ذلك دعم السياسات المالية التي تتمتّع بقدرة أكبر على توزيع الموارد وتصميمها بغية وضع حد للفساد والتدفقات المالية غير المشروعة، التي تبعد الأموال عن الإنفاق العام. كما يشمل دعم الميزانيات التشاركية والشاملة والشفافة والخاضعة للمساءلة، التي تسمح للجمهور والمجتمع المدني "بتتبّع الأموال" وتعزّز الثقة في الحكومة، وتضمن أن تكون السياسات أكثر فعالية وتعزيزًا لحقوق الشعوب.

وفي هذا الصدد، تتعاون مفوضيّتنا حاليًا مع السلطات في كينيا وجنوب أفريقيا لتعزيز اعتماد ميزانية قائمة على حقوق الإنسان، تركّز على الحماية الاجتماعية.

ندرك تمامًا أنه يمكننا بذل المزيد من الجهود. وأعول على دعمكم عمل المفوضية ومجلس حقوق الإنسان من أجل تعزيز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحمايتها.

يذكّرنا الاحتفال هذا العام بالذكرى السنوية الـ75 لاعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بأنّه علينا أن نركّز على جميع حقوق الإنسان أي على الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وعلى الحق في التنمية، بالقدر نفسه.

وأعترف بأن الحقوق الثقافية على وجه التحديد، لم تحظَ بالقدر الكافي من الاهتمام. وستتمكن المفوضية إذا ما حظيت بدعم إضافي، من تكثيف العمل الذي تمس الحاجة إليه على الجوانب الرئيسية للحقوق الثقافية، مثل حق كل فرد في المشاركة في الحياة الثقافية وفي الحفاظ على التراث الثقافي والتمتع بفوائد التقدم العلمي.

ويتيح هذا الاجتماع الذي يستمر ثلاثة أيام فرصة التشكيك في نماذجنا وسياساتنا الاقتصادية الحالية، وإيجاد سبل جديدة للنهوض بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وبالنظر إلى الثغرات التي كشفتها هذه الجائحة وعمقها، آمل أن يصبح الناس والكوكب من الآن فصاعدًا، مترسخين في صميم الاقتصادات والسياسات الوطنية والعالمية بشكل لا لبس فيه.

يجب أن نتعلم حقًا من تجربتنا الأخيرة، فما من وقت نضيعه.

وشكرًا.

الصفحة متوفرة باللغة: