البيانات الإجراءات الخاصة
بيان السيد هاينر بيلفالدت المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحرية الدين أو المعتقد في نهاية زيارته إلى لبنان عرض الاستنتاجات الأولية
بيان السيد هاينر بيلفالدت
02 نيسان/أبريل 2015
بيروت, 2 نيسان/أبريل 2015
أولاً-مقدمة
أجريتُ زيارة إلى لبنان من 23 آذار إلى 2 نيسان بصفتي المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحرية الدين أو المعتقد. أودّ بدايةً أن أعرب عن امتناني لقبول الحكومة طلبي بزيارة لبنان في إطار دعوتها الدائمة إلى جميع المقررين الخاصين المعنيين بمواضيع محددة في مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان. كما أعرب عن عميق امتناني للمكتب الإقليمي للمفوضية السامية لحقوق الإنسان في بيروت لما وفّرته من دعم لوجستي، وتنظيمي، وفكري. أودّ كذلك أن أتوجّه بخالص الشكر إلى المحاورين من مؤسسات حكومية، ومجموعة واسعة من منظمات المجتمع المدني، والأوساط الأكاديمية، ومختلف المسؤولين الدينيين أو المحليين، واللاجئين والعمّال الأجانب، الذين شاطرونا تجاربهم، وتقديراتهم ووجهات نظرهم. لقد أجرينا العديد من النقاشات الناشطة، والصريحة والمنفتحة في بيروت، وطرابلس، وعنجر وزحلة، وتعلّمت الكثير خلال هذه التبادلات.
أقدّم اليوم استنتاجاتي الأولية، أي بعض الملاحظات الرئيسية التي أودّ أن أسترعي انتباهكم إليها. إنما ينبغي التمييز بين هذا البيان الصحافي والتقرير النهائي. بالفعل، سوف يُقدّم التقرير الرسمي إلى مجلس حقوق الإنسان في دورته الحادية والثلاثين المزمع انعقادها في آذار 2016. وفي إطار الإعداد للتقرير، سوف استكمل التواصل والعمل بالتشاور مع الحكومة وجميع أصحاب الشأن للحصول على مزيد من المعلومات والإيضاحات حول هذه الملاحظات والانطباعات الأوّلية.
سألني بعضهم عن سبب اختياري زيارة لبنان. ففي حين تواجه بعض الدول المجاورة شبح أعمال العنف المستفحل مع ما تفرزه هذه الأعمال من أبعاد طائفية بديهية، تبقى العلاقات بين الطوائف الدينية في لبنان ودية إلى حدّ بعيد. فالناس يمارسون ديانتهم بكل حرية ولا تشهد البلاد أي اضطهاد ديني. لقد نجح لبنان في الحفاظ على تماسك مجتمعه عبر الحدود الدينية، وفي بناء القدرة على الصمود في وجه سمّ التطرّف الديني. بالفعل، لقد كان الغرض الرئيسي من زيارتي التوصّل إلى تكوين فهم أفضل للعوامل التي سهّلت تحقيق هذه الإنجازات المدهشة والوقوف عند التدابير التي من شأنها أن تعزّز التعايش السلمي بين الأشخاص على اختلاف انتماءاتهم الطائفية والدينية.
وبصفتي المقرر خاص للأمم المتحدة المعني بحرية الدين أو المعتقد، لا أتناول مسائل تتصل بالاضطهاد أو الإكراه الديني فحسب. فحرية الفكر، أو الضمير، أو الدين أو المعتقد (وهو العنوان الكامل لهذا الحق الإنساني) تشمل أيضاً ما يترتب عنها من قيود قد تفرضها البنى المجتمعية على التعبير الحرّ لكل فرد عن معتقداته وممارساته الدينية. وإضافةً إلى ما تتناوله هذه الحرية من أشكال عدائية للتمييز القائم على أسباب دينية، فهي تتعلّق أيضاً ببنى تمييزية أقلّ وضوحاً قد لا تظهر دوماً على الملء إنما تتطلب بعض التحليل. وترمي حرية الدين أو المعتقد إلى إقامة مجتمع شمولي يمكن أن ينمو في ظلّه التنوع الديني الموجود والناشىء بكل حرية ومن دون أي تمييز. من الواضح أن العمل جارٍ على هذا المسار وأن المجتمعات كافةً تواجه التحديات.
ثانياً-إرث التنوّع الديني
1- لمحة موجزة عن الواقع الديني
تتمثل الميزة الأبرز للبنان بالتعدد الديني الذي لطالما تمتّع به، وهذا ما يجعله بلداً فريداً من نوعه في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم. لقد شكّل لبنان طيلة قرون من الزمن ملاذاً لمختلف الجماعات المسيحية والمسلمة. وتنصّ المادة 9 من دستوره على حرية الضمير وإقامة جميع الشعائر الدينية على ألاّ يكون في ذلك إخلال في النظام العام. وقد اعترفت الدولة رسمياً حتى تاريخه بوجود 18 طائفة في لبنان.
تتضمن الطوائف المسيحية الكاثوليك، والأورثوذكس، والطوائف الشرقية والإنجيلية. وبدورها تضم الطائفة الكاثوليكية الروم الكاثوليك، والكلدان، والأرمن الكاثوليك، واللاتين، وبخاصة الكنيسة المارونية التي يتواجد مركزها العالمي في لبنان. وأمّا في مختلف الكنائس الأورثوذكسية، فكنيسة الروم الأورثوذكس هي إلى حدّ بعيد الأكبر حجماً. كذلك، تقوم في لبنان كنائس شرقية- الأشوريون، والسريان الأورثوذكس، والأرمن الرسل والأقباط- وتحتفظ جميعها بالتقاليد الخاصة بها. وتتعاون أغلبية الكنائس الإنجيلية- الأسقفية، والمشيخية، والمعمدانية، والسبتية، ومختلف الكنائس الحرة وغيرها- مع المجلس الأعلى للطائفة الإنجيلية. وفي حين يرقى وجود بعض الطوائف المسيحية في لبنان إلى منشأ المسيحية، دخلت طوائف أخرى البلاد في القرن التاسع عشر والقرن العشرين. كما أن غنى الطقوس الدينية المسيحية (بما في ذلك اللغات التي تُمارس فيها هذه الطقوس)، والاحتفالات الدينية والقانون الكنسي المسيحي يشكّل إرثاً ينفرد به لبنان.
وأمّا الطائفة المسلمة فتضمّ السنة، والشيعة والعلويين والدروز. وكما هي الحال بالنسبة إلى المسيحية، تتعدّد المذاهب داخل الطائفة المسلمة أكثر ممّا هي عليه في أي دولة أخرى في الشرق الأوسط. بالفعل، تقوم مدارس مختلفة للشريعة- ولا سيما الحنفية والجعفرية- جنباً إلى جنب. وينضوي تحت مظلة الطائفة الشيعية أتباع المذهب الإثني عشري، والإسماعيليين والعلويين الذي يشكلون جميعهم مجموعات متمايزة تتمسك بخصائصها في التعاليم والممارسة، في حين تخضع أحوالها الشخصية جميعها إلى نظام المحكمة الجعفرية (الإثني عشرية). ويجمع الدروز من جهتهم بين التعاليم الإسلامية التقليدية وبعض الأفكار الفلسفية والممارسات الباطنية. كما يقيمون نظاماً خاصاً بهم للمحاكم الدينية.
وتوجد في لبنان جماعة صغيرة من اليهود المقيمين في لبنان، وهي تضم حوالى 100 شخص.
كذلك، ثمة طوائف دينية غير معترف بها في لبنان مثل البهائيين، وشهود يهوى والمورمون. وفي ظلّ موجات الهجرة الأخيرة، وصل بعض الهندوس والبوذيين إلى البلاد، ومعظمهم يقتاتون عيشهم كعمّال أجانب. كما ينبغي عدم التغافل عن اعتبار بعض اللبنانيين أنفسهم لاأدريين أو ملحدين، ويعبّرون عن آراء نقدية إزاء المسائل الدينية، حتى أن بعضهم ينعتون أنفسهم "بغير المؤمنين". بالتالي، من البديهي أن التعددية الدينية الموجودة والناشئة في لبنان تتعدى الطوائف الثمانية عشرة المعترف بها رسمياً.
2- تقدير شامل للتنوّع
يبرز اتفاق واسع النطاق داخل المجتمع اللبناني على ضرورة التمسك بتنوّع الديانات والمعتقدات، والدفاع عنه وتعزيزه. وغالباً ما سمعت كثيرين يردّدون أن أي طائفة دينية في لبنان لا ترغب في رؤية البلاد تتحوّل إلى كيان ذات دين وحيد، ناهيك عن دولة دينية. ولطالما شدّد المحاورون من مختلف الأطياف الدينية على أن وجود ديانات "أخرى" أعطاهم مساحةً أكبر للتنفس ضمن دياناتهم أيضاً.
كذلك، تشكّل الزيجات المختلطة بين المسيحيين والمسلمين أو بين أشخاص ينتمون إلى مذاهب مسيحية أو إسلامية مختلفة ظاهرة واسعة الانتشار في لبنان، وبالتالي فإن هذا التعدد الديني يطبع أيضاً حياة الأسرة. وعلى عكس واقع الحال في بلدان عربية أخرى، يجيز القانون لللبنانيين تغيير دينهم، ليس من المسيحية إلى الإسلام فحسب إنما أيضاً من الإسلام إلى المسيحية. وتحصل هذه التحوّلات أيضاً بين مختلف المذاهب المسيحية أو (وإن في حالات نادرة) بين مذاهب مختلفة من الإسلام.
وتبقى التصادمات العنيفة الطائفية النبرة نادرة نسبياً في لبنان غير أن البعض ذكر أن تصاعد حدّة التوتر بين السنّة والشيعة قد يؤثر سلباً على التعايش بين هاتين الطائفتين في لبنان أيضاً، غير أن البلاد لا تشهد أي حركة اضطهاد ديني. وهذا ما أكّده أيضاً أفراد ينتمون إلى جماعات غير معترف بها، مثل البهائيين وشهود يهوى. وفي حين تحدثوا عن بعض القضايا المتصلة بالأفكار النمطية والتمييز الذي يطالهم، عبّروا عن تقديرهم لتمكّنهم من العيش بأمان في لبنان وبحسب قناعاتهم الدينية.
ثالثاً- العيش معاً في مجتمع متنوع دينياً
كان من شأن تصاعد التطرّف الديني في منطقة الشرق الأوسط أن عزّز الإدراك بأن التنوّع لا يُعتبر من المسلّمات وأن الخطر كبير. ولدى سؤالي عن العوامل التي تحافظ على تماسك المجتمع اللبناني عبر جميع الحدود الدينية والطائفية، تلقيّت أجوبةً مختلفة أشارت إلى أبعاد ملحوظة مختلفة للتعايش، ينبغي أن تؤخذ جميعها في الاعتبار.
1- التواصل والتعاون بين الأديان
أحد العوامل الذي غالباً ما تردّد خلال مناقشة التنوع كان الحوار بين الأديان. وقد حضرتُ الأسبوع الماضي "اللقاء الروحي الإسلامي المسيحي" الذي عُقد في مدرسة سيدة الجمهور، وكان احتفالاً بين الأديان لمناسبة عيد البشارة حيث أعلنت شخصيات دينية مسيحية ومسلمة رمزياً تقديرها المتبادل لبعضها البعض على ضوء جذورها الدينية المشتركة. بدأ الاحتفال بتلاوة رجل دين مسلم لآيات قرآنية بالتزامن مع قرع أجراس الكنيسة. كما أدّى تلامذة من بيئات دينية مختلفة رقصةً عبروا من خلالها عن عزمهم العمل معاً على مكافحة أي أعمال عنف تُرتكب باسم الدين.
ولدى لقائي قادة دينيين من طوائف مختلفة، سمعت العديد من الالتزامات بالحوار بين الأديان بما يعزّز روح العيش المشترك والتعاون. فمشاريع الحوار بين الأديان تظهر باشكال مختلفة، كما أن القادة الدينيين يعقدون قمماً منتظمة يتناقشون خلالها، من بين مواضيع أخرى، في قضايا سياسية ذات اهتمام مشترك. ووفقاً للجنة الحوار المسيحي الإسلامي، سوف يتّخذ التعاون بين القادة الدينيين طابعاً مؤسسياً. وتقوم مؤسسة أديان أيضاً بتشجيع التواصل بين الأديان والثقافات في عدد من البلدان العربية، بما في ذلك لبنان، من أجل اكتشاف قيم ومصالح مشتركة تعزز تنمية "المواطنة الشاملة". كذلك، ترمي مشاريع حوار أخرى إلى توفير المساعدة الإنسانية للمعوزين، بما فيهم اللاجئين من سوريا ودول أخرى. وأمّا "معاً" فهي منظمة من المجتمع المدني تجمع بين رجال دين وعلمانيين يقدم بعضهم الدعم معاً للسجناء من خلال تلبية احتياجاتهم الروحية والاجتماعية. ومن خلال تعاونهم مع السجون، يسعون إلى الوصول إلى أشخاص قد يصبحون فريسةً سهلة للأصولية الدينية بفعل ظروف عيشهم المتردية وانعدام آفاقهم المستقبلية.
لذا، تهدف مشاريع الحوار بين الأديان إلى تحقيق أغراض مختلفة، بعضها رمزي والبعض الآخر أكثر عمليةً، مثل التحدّث بصوت واحد ورفض العنف باسم الدين. في جميع الأحوال، فإن اللقاءات بين الأديان، حين تحصل على أساس منتظم وتقوم على الاحترام المتبادل، يمكن أن تيسّر توليد الثقة المستدامة عبر الحدود الدينية والطائفية. وحتى حينما يغلب التوتر مؤقتاً على العلاقات، يستمر الأشخاص في التواصل مع بعضهم للحؤول دون تفاقم سوء الفهم. وسعياً لتوسيع نطاق التعاون بين الأديان، من الهام أن يشارك فيه عدد أكبر من النساء االواتي ما زلن غير ممثّلات على نحو كاف في هذه المشاريع، إضافةً إلى الشباب.
2- الثقافة اليومية
يتمثل العامل الآخر الذي كثيراً ما ذُكر في الثقافة اليومية للعيش المشترك حيث غالباً ما تُعار الاختلافات الدينية أهمية ضئيلة، أو حتى معدومة. فالعديد من الشباب في لبنان يترعرعون في عائلات يطبعها التنوع الديني. ولدى التحاقهم بالمدرسة، قد يتواجدون جنباً إلى جنب مع تلامذة من طوائف أخرى، وهو أمر قد لا يثير مشكلة البتة. كذلك، فإن التعاون المهني والمصالح الاقتصادية المشتركة قد تنشىء روابط تخترق الحدود الطائفية. وقد يقيم عديدون في أحياء سكنية حيث يجهلون الدين الذي ينتمي إليه جيرانهم، فيشاركون معاً في أحداث ثقافية أو رياضية.
ولطالما قيل لي مراراً وتكراراً أن الصمود في وجه التطرف أمر طبيعي في لبنان. كذلك، أشار بعض المحاورين إلى أن اللبنانيين مصمّمون على عدم الاستسلام إلى التخويف جراء أعمال الإرهاب أو التطرّف، وعلى الدفاع عن نمط عيشهم. وفي هذا السياق، ذكر أحدهم أن "حب الحياة" لدى اللبنانيين هو الترياق المجدي في وجه الرسائل المروّعة التي تنشرها حركة داعش ومجموعات متطرفة أخرى.
3- المواطنة اللبنانية
تمثل المواطنة اللبنانية المشتركة أحد العوامل الأخرى التي سمحت بالحفاظ على تماسك البلاد. يعتبر لبنان نفسه "دولة مدنية" قائمة على المواطنة المشتركة، وليس على معتقد ديني واحد. وثمة توافق واسع بضرورة الحفاظ على هذه البنية المدنية وتطويرها على نحو أكبر، من خلال الجهود التي ما زالت حالياً في مراحلها الأولى، لطيّ صفحة النزاعات العنيفة التي شهدها لبنان في السنوات الأخيرة والتي بلغت ذروتها في اندلاع الحرب الأهلية من عام 1975 حتى عام 1990.
كذلك، تعمل منظمات المجتمع المدني، التي تشكل عنصراً حيوياً في لبنان، على توسيع مجالات التعاون بين الأشخاص حول مسائل سياسية عبر مختلف البيئات الدينية والطائفية. ومن البديهي أن التعليم يضطلع بدور حاسم في الترويج للمبادىء "المدنية"، بما في ذلك حقوق الإنسان التي يتمحور حولها الدستور اللبناني.
4- تقاسم السلطة وتحقيق التوازن
تكرّر مصطلح "التوازن" في العديد من النقاشات حول العلاقة بين الطوائف الدينية، وغالباً ما اقترن بكلمة "الموازنة" التي تفيد المعنى المجازي نفسه. ويبدو أن الحديث عن تحقيق "توازن" عملي يدلّ على كيفية إدارة اللبنانيين لمجتمعهم الديني المتنوّع. وبحسب السياق المحدّد، قد تفيد كلمة "التوازن" معانٍ مختلفة تشمل تقاسم السلطة بين مختلف الطوائف، ولا سيما المسيحيين والسنة والشيعة؛ وبناء الثقة على أساس احترام المصالح الحيوية لكل من الطوائف؛ واحترام الحساسيات الدينية من خلال تلافي الاستفزازات غير الضرورية؛ والوعي لتحديات خاصة، والتحديات الديموغرافية ليست أقلّها، قد تعرّض نظام التعايش القائم إلى الخطر. وكثيراً ما أُثيرت في النقاشات حول الموجات الأخيرة لتدفق اللاجئين السوريين مخاوف بشأن السبيل إلى صون هذا التوازن القائم.
ويبدو أن مفاهيم مثل "التوازن" أو الموازنة" تمثل نهجاً عملياً إنما حذراً في الوقت عينه إزاء تناول المسائل المتصلة بالتنوع. من جهة، يشير احترام التوازن بين الطوائف الدينية إلى الانفتاح خدمةً للمصلحة الحيوية لطوائف أخرى ويحول دون احتكار السلطة. ومن جهة أخرى، إن التذرّع بتوازن حسّاس قد يعطّل أيضاً الهيكليات القائمة، خوفاً من أن تفضي أي تغييرات كبيرة في الوضع الراهن إلى تهديد سلامة إرث التعايش بين الطوائف الدينية في لبنان.
رابعاً- التحديات في وجه تنمية التعايش بين الأديان
1- جوانب صعبة في التعددية الدينية
هذا التقدير للتنوّع الديني السائد عامةً في لبنان لا يشمل دوماً جميع الطوائف بالتساوي. فأتباع الطوائف غير المعترف بها، مثل البهائيين وشهود يهوى، وفي حين يتمتعون إلى حد بعيد بحرية الاعتراف وممارسة معتقداتهم، يواجهون المشاكل حين يحاولون إقامة بنية تحتية تسمح لهم بتوطيد حياتهم الجماعية. ويبقى بعضهم مسجلاً ضمن إحدى الطوائف المعترف بها، وهو أمر لم يعودوا يقرّون به- ما قد يولّد مشاعر بعدم الارتياح أو حتى بخيانة ذاتية. وقد عبّر اللاأدريون والملحدون عن المشاعر الملتبسة ذاتها. ففي حين يقدرون المناخ المنفتح في لبنان، حيث يتمتع الأشخاص عامةً بحرية انتقاد الدين، أعربوا في الوقت ذاته عن شعور بالإحباط بأنهم عالقون في نظام مغلق من الطوائف المعترف بها، ينبغي عليهم ملازمته تفادياً لخسارة أي فرص عمل أو فرص مجتمعية أخرى. وأمّا الأعضاء في بعض المجموعات الدينية التي دخلت مؤخراً إلى لبنان، كالبوذيين مثلاً، فإن وجودهم غير معروف نوعاً ما في لبنان.
وحتى داخل نظام الطوائف المعترف بها، ليست العلاقات بين الطوائف سهلة دوماً. فالقضايا المعقدة الناشئة مثلاً عن الزواج المختلط (مثل فسخ الزواج، والطلاق، والحضانة، إلخ.) تؤدي أحياناً إلى تنافس بين مختلف الطوائف المسيحية. كذلك، يشتبه أعضاء في كنائس أخرى بأن بعض الكنائس الإنجيلية تنخرط في عملية "تبشير"، وهو اتهام يرفضه المجلس الأعلى للكنائس الإنجيلية بكل وضوح. حتى أنني سمعت كلاماً عدائياً يحمل في طيّاته رسالة واضحة معادية للسامية. كما أن القادة الدينيين للطائفة العلوية يعتبرون أنفسهم ضحايا الغبن في ظلّ النظام الحالي. هم غير قادرين على إقامة محاكم دينية خاصة بهم، وتُعالج قضاياهم المتصلة بالأحوال الشخصية في ظلّ المحاكم الجعفرية. وأحياناً، يشعر أعضاء الطوائف الأصغر أنهم مستثنون من مشاريع الحوار بين الأديان والاحتفالات العامة. علاوةً على ذلك، يبرز قلق محسوس جداً في المجتمع من أن التغييرات الديموغرافية قد تقوّض في الأجل الطويل التوازن القائم بين المسيحيين والمسلمين، الذين- وعلى الرغم من كلّ التنوع الداخلي- يُعتبرون أنهم يمثلون الطائفتين الدينيّتين الأكبر حجماً اللتين تحدّدان ملامح البلاد.
أودّ أن أشير إلى أنه حتى الأشخاص الذين أعربوا عن آراء مشكّكة نوعاً ما حول العلاقات بين مختلف الطوائف الدينية في لبنان، ما زالوا يصفون الوضع بتعابير إيجابية، وبخاصة لدى مقارنته مع بلدان أخرى في الشرق الأوسط.
2- القضايا الدينية والتاريخية الحسّاسة
كما ذكرت أعلاه، يشير التذرّع المتكرر "بالتوازن" أو "الموازنة" بين الطوائف إلى إرادة واسعة في اعتماد نهج حذر إزاء مختلف الحساسيات الدينية. إنما هذا النهج الحذر، الذي قد ينطوي على مزايا عديدة، قد يولّد تدابير تقييدية، بما في ذلك تدابير الرقابة المسبقة، تبدو مناقضة لروح الخطاب العام المنفتح السائد في لبنان. ويبدو أنه تتم استشارة القادة الدينيين على نحو ناشط في قضايا الرقابة المتصلة بالحساسيات الدينية.
علاوةً على ذلك، يبرز تردّد كبير في التطرّق إلى النزاعات العنيفة المعقدة التي شهدها لبنان في السنوات الأخيرة، خلال الحرب الأهلية التي امتدت من عام 1975 حتى عام 1990. وعلى الرغم من أن الجميع يتفق نظرياً على أن مختلف العوامل السياسية، وليست الخصومات الطائفية، هي التي أدّت إلى الحرب، من البديهي أن القتال ترك آثاراً سلبية عميقة على الطوائف الدينية. وقد شارك بعض السياسيين المرتبطين بمجموعات طائفية على نحو ناشط في أعمال القتل وربما في المذابح، وما زالت الذكريات الأليمة حيّة لدى جميع الطوائف. كما أن الكتب والمناهج المدرسية لا تتناول حالياً هذا الجزء المروّع من الماضي القريب، ولا يوجد كتاب تاريخ موحّد. ورأى بعض المحاورين أن التعايش بين الأديان في لبنان يرتكز على بعض "المحرّمات" كما وعلى الحوار المفتوح، وأنه غالباً ما تعيق القضايا الحساسة التي يجهد الناس على تلافيها التواصل الجدي بين مختلف الطوائف. وهذا قد يؤثر أيضاً على عمق ومصداقية الإشارة الواسعة النطاق إلى العيش المشترك.
ومن أجل تشجيع وتوطيد علاقات الثقة بين الطوائف، ينبغي للمجتمع اللبناني أن يتطرق إلى موروثات ماضيه المعقدة. فالروايات الجماعية المؤلمة، وبخاصة حين تروى ضمن أوساط مغلقة ولا تقابلها قصص مضادة لدى مجموعات أخرى، يمكن أن تصبح أرضاً خصبة لتوليد المرارة ومناخ من الارتياب المتبادل. من الناحية الإيجابية، يفترض تعزيز الثقة داخل المجتمع إمكانية التحدث عن قضايا حسّاسة من دون خوف من أن تعود "أشباح من الماضي" إلى الظهور فوراً لمجرّد إثارة الموضوع. لا شكّ في أن تجاوز هذه التجارب الجماعية المؤلمة يتطلب عملية طويلة لا يمكن أن تنجح إلاّ إذا قامت على مشاركة واسعة ومحاولة صادقة لمواجهة جميع الوقائع المريعة. فمنظمات المجتمع المدني، التي بدأت بتمهيد الطريق لتحقيق هذه العملية في لبنان، مثل المركز الدولي للعدالة الانتقالية، تضطلع بمهمة ضخمة تكون في خدمة المواطنة المشتركة في حين تعزّز التواصل الجيد بين المجموعات. وقد تسنى لي الإصغاء إلى آراء الطلاب من مدارس رسمية وخاصة في لبنان شاركوا في مشروع "تعليم التاريخ المجزّأ" الذي ينفّذه المجلس الثقافي البريطاني وتدعمه وزارة التربية. والالتزام الذي لمسته من خلال الملصقات التي عرضها طلاّب المدرسة ضمن هذه المبادرة أثلج صدري.
3- عوامل التفرقة المجتمعية
يعتمد التفاعل المجدي بين الطوائف بصورة طبيعية على قدرة الأشخاص على الالتقاء بصورة منتظمة ومن دون بذل جهود كبيرة. وتختلف الشروط المسبقة لحصول هذا التفاعل اختلافاً كبيراً داخل البلد نفسه. في حين أنه في بعض المناطق السكنية يعيش الأشخاص الذين ينتمون إلى بيئات دينية مختلفة بشكل وثيق مع بعضهم، غالباً ما يقيم أتباع الديانة الواحدة في مناطق أخرى بصورة رئيسية. ويبدو أن أشخاصاً من مستويات اجتماعية أعلى يتمتعون عامةً بفرص أفضل للعيش في بيئات مختلطة دينياً، بما في ذلك في متاجرهم، ومواقع عملهم أو في وظائفهم. بالتالي، يبدو أن العوامل الاجتماعية والاقتصادية تترك وقعاً ضخماً أيضاً على جودة التعايش بين الأديان.
وكذلك، ينعكس هذا الأمر في النظام التعليمي حيث ينشأ الانقسام الكبير بين التعليم الرسمي والخاص. وفي حين أن 45 في المائة من المدارس في لبنان هي مدارس رسمية، فإن النسبة المئوية للطلاب الملتحقين بها تمثل أقلّ من 30 في المائة من مجموع الطلاب، وهو ما يعزى إلى الدور القوي الذي يضطلع به التعليم الخاص في لبنان. كما أن أغلبية المدارس الخاصة تخضع لإدارة الطوائف الدينية، ولا سيما الطوائف المسيحية، وتتمتع عامةً بسمعة رفيعة، إنما قد تفرض أيضاً أقساطاً مدرسية ملحوظة. وعلى العكس، رغم أن المدارس الرسمية مجانية، غالباً ما تكون أقل شهرة وترعى تلامذة من عائلات فقيرة اقتصادياً.
وتجتذب المدارس الخاصة في أغلب الأحيان طلاباً من طوائف دينية مختلفة شرط أن يتمكنوا من دفع الرسوم المتوجبة. بالفعل، يضم العديد من المدارس المسيحية الخاصة طلاباً مسلمين ومسيحيين أيضاً، وتتوفّر أمثلة عديدة تبيّن حتى أن أغلبية الطلاب الذين يتابعون تعليمهم في مدرسة مسيحية محدّدة هم من المسلمين. وهذا يشير إلى الانفتاح العام في المجتمع ويعزّزه، ويساعد على توطيد العلاقات المستدامة بين الطلاب من بيئات طائفية متنوعة. وبالمقابل، غالباً ما تضمّ المدارس الرسمية في بعض المناطق طلاباً يكونون بصورة رئيسية أو حتى حصرية من طائفة واحدة، حسب المنطقة. بالتالي، يعمّق النظام التعليمي الآثار المتأتية عن التقسيم الطبقي الاقتصادي فيبقى بعض الأطفال في العائلات الفقيرة محرومين من فرص جيدة تتيح لهم عيش تجربة إيجابية في التنوع الديني من خلال تعليمهم المدرسي. ونظراً إلى أن التجارب خلال التعليم المدرسي تؤدي دوراً هاماً في تكوين ذهنيات الأشخاص، يحتاج هذا المجال إلى إصلاحات بنيوبة ماسة.
4- التمييز المتصل بالمنظور الجنساني
يُفاد أن بعض المدارس الخاصة تفرض قواعد صارمة بالنسبة إلى اللباس، وهي تتعلق خاصة بالنساء والفتيات. وحسب توجه المدارس المعنية، قد تفرض هذه القواعد وضع الحجاب الإسلامي أو تمنعه، ربما من دون إيلاء الاحترام الواجب إلى التعبير الشخصي عن الهوية الدينية. غير أن الوضع يختلف من مدرسة إلى أخرى، ولا يبدو أنه يوجد نمط واحد في هذا المجال. وفي هذا الصدد، قد تكون السياسات المعتمدة في المدارس الرسمية أكثر مرونةً، إنما هذا يعتمد إلى حدّ بعيد على قرارات المدراء المدارس.
ورغم ان النساء يشاركن في بعض مشاريع الحوار بين الأديان، وبخاصة تلك التي تطلقها منظمات المجتمع المدني القائمة على أساس الدين، غالباً ما تبقى غائبة عن هيكليات أكثر تقليدية. فالإشارة المنتظمة إلى "الأخوّة" بين الأديان (وهو مصطلح لا يثير حتى التساؤلات) تشير سهواً إلى تهميش المرأة. كما أن عدم تمثيل النساء على نحو كافٍ في الحوار بين الأديان يعكس أيضاً موقعها التابع في العديد من الطوائف الدينية (إن ليس في جميعها)، حيث تبقى الأدوار القيادية مخصصة إلى حد بعيد للرجال.
وقد أصبحت القوانين والمحاكم الدينية للأسرة مجالاً مثيراً للنزاعات تتداخل فيه المسائل المتصلة بحرية الدين والتمييز بين الرجال والنساء (اُنظر الفقرة 5 أدناه أيضاً). وحسب العديد من التفاصيل المقدة، مثلل التسجيل في الطائفة لإحدى الزوجتين أو للإثنتين، تعاني النساء من درجات مختلفة من التمييز في مسائل هامة كالطلاق، أو حضانة الأطفال أو الإرث. وفي حالات الزواج المختلط بين الطوائف، يتم الاستناد إلى طائفة الزوج كمعيار لتقرير النظام القانوني الذي يخضع له الزواج.
5- الطائفية السياسية
يتجلّى "التوازن" الحذر بهدف الحفاظ على "الموازنة" القائمة بين الأديان في مختلف الأوساط المجتمعية، مثل سوق العمل، وقطاع الخدمة العامة وبخاصة، في النظام السياسي. ورغم أن الدستور اللبناني تضمّن غداة توقيع اتفاق الطائف التزاماً بتجاوز الطائفية السياسية، ما زالت المحاصصة الدينية الرسمية وغير الرسمية تحدّد التوقعات، والذهنيات والحياة المهنية. وغالباً ما يعبّر الناس عن قلقهم إزاء الاستمرار في شغور منصب رئيس الجمهورية المخصّص تقليدياً إلى ماروني منذ شهر أيار 2014.
ولدى مناقشة هذه المسألة، اتفق معظم الأشخاص على أن النظام القائم ينطوي على منافع ومساوىء. من جهة، يوفر هذا النظام الاستقرار وقابلية التوقّع بين الطوائف الدينية، وهو أمر يُعتبر بالتأكيد ميزةً في مناخ سياسي متغيّر في الشرق الأوسط. ومن جهة أخرى، قد يضعف المواطنة المشتركة ويعزّز الانقسام السياسي.
ونظراً إلى أن الفرص الاجتماعية والسياسية تعتمد إلى حدّ بعيد على الانتماء إلى إحدى الطوائف الدينية المعترف بها رسمياً، فهي قد تولّد أحياناً حالات وصفها بعض المحاورين بصراحة "بالانفصام في الشخصية". فالأشخاص الذين يعلنون على الملء مثلاً أنهم غير مؤمنين يعودون دوماً إلى دينهم الأساسي لدى التقدّم بطلب الحصول على بعض الوظائف في المجتمع. وما زال بعض الأعضاء في الطوائف الدينية غير المعترف بها يسجّلون كأورثوذكس وكاثوليك. وترد أمثلة عديدة عن هذه الثغرات بين الانتماء الرسمي والمعتقد الفعلي. ونتيجةً لهذا الواقع، يتلقّى عديدون حوافز للادّعاء (أقلّه في بعض الظروف) بأنهم يتبعون ديناً محدداً يكونون تخلّوا عنه فعلياً أو استبدلوه بمعتقد آخر. وفي حين يوافق البعض على الإذعان لهذه الألاعيب، يعتبر البعض الآخر أنها تتناقض مع مبادىء الأصالة الأخلاقية والدينية.
ومن منظور حرية الدين أو المعتقد، تثير هذه الحالة بعض الشواغل. فهذا التداخل الوثيق بين الانتماء الديني والفرص السياسية والاجتماعية والاقتصادية يعني أنه يتعيّن على كثيرين استخدام الدين "كبطاقة مرور" للحصول على الخدمات أو الوظائف. وبالتالي، فإن الأشخاص الذين لا تتناسب معتقداتهم مع هذا النظام يجدون أنفسهم أمام معضلة: إمّا يضطرون على استخدام الدين "كبطاقة مرور" على حساب قناعاتهم الحقيقية أو يخاطرون بخسارة بعض الفرص في المجتمع. وأقول بشيء من التحفظ أنهم قد يضطرون على الاختيار بين خيانة أنفسهم أو تهميش أنفسهم. لذا، ووفقاً لاتفاق الطائف، إن فصل الفرص السياسية والمجتمعية عن الانتماء الديني يصبّ في مصلحة حرية الدين أو المعتقد. وقد يسمح بإقامة مجتمع مفتوح وشمولي يقوم على المواطنة المشتركة، حيث يمكن للتنوع الديني أن يتجلّى بكلّ انفتاح وأصالة ومن دون أي تمييز.
كذلك، قد تفاقم موجة التطرف التي يشهدها الشرق الأوسط حالياً، والتي تهدّد بالقضاء على جميع آثار التنوّع الديني، المخاوف من أنه من دون المحاصصة الرسمية أو غير الرسمية قد يغلب حكم الأغلبية المطلقة، وربما يقوّض إرث لبنان في التعايش المشترك. لا ريب في أن هذه المخاوف مبرّرة غير أن حكم الأغلبية المطلقة ليست الحل البديل الوحيد الممكن لنظام الطائفية السياسية القائم حالياً. لقد انشأت معظم الأنظمة الديموقراطية المعاصرة ترتيبات مؤسسية معقدة لضمان أن تكون الحقوق الأساسية للأفراد والجماعات مكفولةً من دون أي تمييز. وفي الواقع، إن استبدال النظام القائم على المحاصصة لتثبيت التنوّع بنهج قائم على الحقوق يُطبَّق على نحو متّسق لتعزيز التنوّع يمثل سبيلاً واعداً من أجل الحفاظ على إرث لبنان الخاص في الأجل الطويل.
خامساً- الجدل حول الزواج المدني
1- دور القوانين والمحاكم الدينية
في حين أن الدولة اللبنانية مدنية في طبيعتها، تُعالَج المسائل المتصلة بالأحوال الشخصية- الزواج، والطلاق، وحضانة الأولاد، والإرث، إلخ- في المحاكم الدينية بموجب القوانين الدينية. تقوم الطوائف المسيحية المختلفة بإدارة محاكمها الروحية التي تطبق القانون الكنسي الخاص بها. كذلك، يلجأ المسلمون إلى المحاكم الشرعية التي تعمل تحت رعاية المدرسة الحنفية (للسنّة) والمدسة الجعفرية (لمختلف المذاهب الشيعية). وأمّا الدروز فيديرون محاكمهم الخاصة. وبالتالي، يتجلّى أيضاً التنوّع الديني في لبنان في تعددية القوانين والمحاكم الدينية. والأشخاص الذين لا يخضعون للبنية التحتية القائمة في المحاكم الدينية، أو الذين لا يرغبون في الخضوع لها، يمكنهم عقد الزواج في الخارج وتسجيله لاحقاً في لبنان. في هذا الصدد، توفّر جزيرة قبرص التي اعتمدت الزواج المدني في الستينات، حلاًّ بديلاً مجدياً ومقبولاً يلجأ إليه العديد من الأزواج. إنما لدى عودتهم إلى لبنان، تخضع شؤون الأحوال الشخصية للمسلمين (أي إذا كان الزوجان مسلمَين) لأحكام الشريعة.
2- تعليق عملية تسجيل الزواج المدني
في السنوات الأخيرة، تلقّى نظام إدارة شؤون الأحوال الشخصية العديد من الانتقادات. وقد اشتكى الناشطون لحقوق المرأة والمنظمات غير الحكومية مثل "الأجندة القانونية" من التمييز على أساس النوع الاجتماعي الذي يقوم بنيوياً في مختلف ترجمات القانون الكنسي وقانون الشريعة، وإن بدرجات مختلفة. ويشعر آخرون بالانزعاج لاضطرارهم إلى السفر من أجل عقد زواج صحيح. كما أن خيار الزواج في الخارج لا يمكنه أن يوفّر حتى حلاً مرضياً لجميع النزاعات المعقّدة الناشئة حول الطلاق، أو الحضانة أو الإرث. وبالنسبة إلى المسلمين الذين يتزوجون في الخارج، ما من سبيل لتلافي الخضوع للمحاكم الشرعية.
في السنوات الأخيرة، نجح بعض الأزواج في المطالبة بحقهم في تسجيل الزواج المدني في لبنان، أي الزواج خارج نظام القوانين الدينية. وعلى الرغم من أنه في غياب قانون للزواج المدني معتمد رسمياً في لبنان يبقى الأساس القانوني لهذا التسجيل موضوع نزاع، غير أن زواجهم يُعتبر صحيحاً. إنما جرى مؤخراً تعليق هذه الممارسة سيما أن وزير الداخلية بات يرفض أي تسجيل للزواج المدني في لبنان.
3- الدعوة إلى إصلاحات قانونية
لقد شعرت خلال نقاشات عديدة انفتاحاً كبيراً على إجراء إصلاحات في قانون الزواج، لدى المسؤولين الدينيين والمؤمنين في مختلف الطوائف الدينية المسيحية منها والمسلمة. بالفعل، إن عدم توفر خيار القانون المدني في لبنان يولّد حالات تثير المشاكل من منظور حرية الدين أو المعتقد ايضاً. فالكاثوليك الذين يرغبون مثلاً في الخروج من زواج غير ناجح غالباً ما يعتنقون الإسلام كما أن بعضهم قد يتحوّل إلى طوائف مسيحية أخرى تعتمد نظاماً أكثر مرونة في ما يخص الطلاق. إنما من المؤكد أن وجود حلّ قانوني مدني بديل لن يحلّ النزاع بأن القانون الكنسي الكاثوليكي يطبّق فهماً صارماً لعدم إمكانية فسخ الزواج. لكن أقلّه لا يشعر الأشخاص بضرورة التحوّل إلى دين آخر من دون الإيمان به فعلاً، وهذا ما يظهر جلياً حين يعبر بعض الأشخاص عن رغبتهم في العودة إلى طائفتهم الدينية السابقة بعد أن يكونوا قد اعتنقوا الإسلام رسمياً. ما معنى "تغيير الدين" في هذه الحالة؟ في حين لا يجوز في نهاية المطاف لأي كان أن يدّعي لنفسه بحق الحكم على صحة اهتداء شخص آخر، فإن نظام القانون الديني بشأن الأحوال الشخصية لا يثير أي مسائل في هذا الخصوص لأنه يمزج بين الدوافع القانونية والدينية. وتجدر الإشارة إلى أن الهداية تحصل في حالات استثنائية بين مختلف المذاهب الإسلامية، بين السنّة والشيعة مثلاً، وذلك للاستفادة من بعض إجراءات الإرث التي تُعتَبر أكثر ملاءمةً لتشكيلة بعض العائلات.
وأمّا الذين يرغبون في الإبقاء على القانون المرعي للأحوال الشخصية فهم يعتبرونه عامل استقرار للتعددية الدينية. وفي حين أتفق مع الدوافع الكامنة لدى البعض، لا أعتقد شخصياً أن الزواج المدني الاختياري المتاح للجميع في لبنان قد يُضعف بالضرورة إرث التنوّع الديني. بل أن العكس قد يكون صحيحاً. في نهاية المطاف، الدين مسألة قناعة ولا يسعه أن ينمو سوى في مناخ من الحرية. ويمكن إيجاد الإشارة إلى عدم جواز الإكراه في المسائل الدينية في معظم التقاليد الدينية، كما وفي صميم الحق الإنساني في حرية الدين أو المعتقد. غير أن الإكراه لا يتجلي فقط بشكل الاضطهاد العنيف، بل يظهر أيضاً بأشكال أقل بديهية ضمن آليات إنفاذ المعايير القانونية، يتم من خلالها تنظيم مسائل هامة جداً مثل الزواج أو حضانة الأطفال على أساس الديانة التي ينتمي إليها الشخص المعني.
سادساً- الديناميكية الإقليمية الأوسع نطاقاً
1- أعمال العنف التي تُرتكَب باسم الدين
نشهد حالياً منطقة الشرق الأوسط ومناطق أخرى في العالم أعمالاً وحشية يصعب تصورها وتؤثر على ملايين الأشخاص. ولدى وصف هذه الأفعال بالأفعال "البربرية"، يخال لنا أنها تُعزى إلى حقبة مختلفة تماماً من الزمن، بعيدةً كل البعد عن عالمنا المعاصر. غير أنها تُرتكب على يد أشخاص يعيشون في القرن الحادي والعشرين، ويعرفون تماماً كيف يستخدمون أحدث تقنيات التواصل وكيف يعرضون الصور على وسائل الإعلام الدولية. في الواقع، تقع عمليات الخطف والقتل والطرد والتهجير الجماعي يومياً في البلدان المجاورة للبنان. ويُرتكب العديد من هذه الفظاعات باسم الربّ. ويمكن فعلاً للتفسيرات المتطرّفة والمريعة للرسائل الدينية أن تصبح عاملاً لتفاقم العنف رغم أنه يبدو واضحاً، لدى النظر إلى الأمور عن كثب، إلى أن معظم الأسباب الأساسية للنزاعات في الشرق الأوساط هي أسباب سياسية بصورة رئيسية. وتشمل هذه العوامل الفساد المستشري؛ وغياب الحوكمة الجيدة، وفقدان الثقة في عمل مؤسسات الدولة (حتى القضائية منها)؛ وتفكّك التواصل المجدي داخل المجموعة الواحدة؛ وحالات الفشل في النظام التربوي؛ والموروثات التاريخية الصعبة؛ وازدياد الفقر في فئات كبيرة من المجتمع؛ ونزاعات الغير في بلدان تعاني أصلاً من مؤسسات ضعيفة؛ والثقافة الذكورية السائدة، ومسائل عديدة أخرى.
ومن البديهي أن التطوّرات المأساوية التي نشهدها في سوريا، والعراق، واليمن ودول أخرى في المنطقة تترك آثاراً عميقة ومباشرة على لبنان. وقد شدّد عديدون ممّن تسنى لي مناقشة هذا الأمر معهم على أن بقاء البلاد على المحك، وكذلك إرثه الفريد في التعددية الدينية وثقافة العيش المشترك فيه عبر مختلف الحدود الدينية والطائفية.
2- اللاجئون السوريون
يتمثل الأثر الأكثر بروزاً الذي تخلّفه الحرب الإقليمية الحالية على لبنان في تدفق أعداد ضخمة من اللاجئين السوريين إليه. وتشير التقديرات إلى أن ما يتراوح بين 1.2 و1.5 مليون سوري هربوا من فظائع الحرب الأهلية السورية، لجأوا إلى بلد صغير كان يستضيف أصلاً مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين والعراقيين. ولدى مناقشة هذه المسألة، ظهرت جلياً المخاوف السياسية من أن الأغلبية الساحقة من السنّة في صفوف اللاجئين السوريين قد تقوّض "التوازن" الطائفي في لبنان، كما يبدو أن الحكومة تصرّ على وقف أي تدفق إضافي للاجئين. وفي ظل هذا الواقع، من المفاجىء جداً أن البلاد لم تشهد حتى تاريخه نزاعات كبيرة بين المواطنين اللبنانيين والللاجئين السوريين.
ورغم أن أغلبية اللاجئين السوريين مسجّلين لدى مفوضية الأمم المتحدة للاجئين، غير أنهم لا يملكون إجازة إقامة في لبنان وهذا ما يعيق حرية تحركهم. عديدون منهم يعيشون في مخيمات غير نظامية في ظروف مذرية، بالكاد يتمكنون من البقاء على قيد الحياة في موسم الشتاء. كما أن ثلاثة أرباع الأطفال اللاجئين السوريين يواجهون صعوبات في تحقيق حقهم في التعلّم رغم بعض الجهود التي تبذلها الحكومة لتسهيل التحاقهم بالمدارس الرسمية.
وإضافةً إلى وكالات الأمم المتحدة، توفّر الإدارات المحلية والمنظمات غير الحكومية والطوائف الدينية بعض المساعدات الإنسانية. فقد استقبلت مدارس دينية خاصة مثلاً أطفالاً لاجئين من دون مطالبتهم بدفع الأقساط العادية، وهذا أمر يستنفد مواردها بشكل كبير. وفي حين تركّز بعض المدارس الدينية الخاصة على اللاجئين الذين ينتمون إلى طائفتها، تستقبل مدارس دينية عديدة الأطفال اللاجئين من مختلف الأطياف الدينية. إنما ولسوء الطالع، إن الإعانات الخارجية نادرة وقد قلّصت بعض الجهات المانحة الأجنبية مؤخراً دعمها المالي أو حتى سحبته. لا شك في أنه ينبغي للأسرة الدولية أن تضطلع بمسؤوليتها لبذل كافة الجهود الرامية إلى تجاوز هذه المحنة العصيبة.
يمكن للاجئين السوريين استخدام المنشآت الدينية القربية منهم، وهذا ما يفعلونه. ولا يواجهون أي مشكلة في زيارة جامع والمشاركة في الصلاة. إنما لدى محاولة دفن موتاهم، لا يجدون المقابر لهم، وهذه مشكلة لا يُتوقّع إيجاد حلّ طويل الأجل لها في الوقت الحالي.
3- العمال الأجانب
لم تحظ حتى اليوم المعتقدات والممارسات الدينية في صفوف عشرات الآلاف من العمال الأجانب المقيمين في لبنان بالاهتمام الكافي، ومعظم هؤلاء العمّال قادم من بلدان أفريقية وآسيوية مثل إثيوبيا، أو الفلبين، أو بنغلاديش، أو سري لانكا. وبصورة خاصة، فإن العمال في المنازل لا يظهرون كثيراً في المجتمع ويتمّ تجاهلهم إلى حدّ بعيد. كما أن غياب الدعم السياسي والاجتماعي لهم يعرّض العديد من هؤلاء الأولاد إلى الاستغلال وسوء المعاملة، ولا سيما النساء أو الفتيات منهم. وأحياناً يواجه أولاد العمّال الأجانب صعوبات في الالتحاق بالمدارس الرسمية، في حين لا يمكنهم دفع الأقساط في المدارس الخاصة. ونتيجةً لذلك، قد يجد الأهل أنفسهم أمام معضلة إرسال أولادهم إلى أقرباء لهم في بلدهم الأمّ أو فقدانهم فرصة توفير تعليم مدرسي أساسي حتى لأولادهم.
لم يشر العمال الأجانب الذين أطلعوني على تجاربهم إلى أي مشكلة في ممارسة ديانتهم. وأحد المحاورين، الذي كان قد أمضى بعض الوقت في بلدان عربية أخرى، أكّد أن معيار الحرية الدينية مرتفع في لبنان بالمقارنة مع ما هو عليه في تلك البلدان، بالنسبة إلى العمال الأجانب أيضاً. بالفعل، يمكنهم الانضمام إلى الطوائف الدينية الموجودة أو إدراة كنائسهم الخاصة التي تحتفل بالطقوس في لغتهم الأمّ. كما توفّر بعض الطوائف الدينية الدعم للتعليم المدرسي لأولاد العمّال الأجانب من خلال مساعدتهم في دفع الأقساط المدرسية في المدارس الدينية الخاصة.
في إطار الهجرة بدافع العمل، باتت البوذية واقعاً يتمّ تغافله إلى حدّ بعيد في لبنان. ورغم عدم توفّر إحصاءات في هذا المجال، يُقدّر أن عدد البوذيين المقيمين في البلاد يبلغ عشرات الآلاف. ووفقاً للمعلومات التي وردتنا، لا يوجد بعد في لبنان معبد بوذي، رغم الإفادة بتقديم طلبات لشراء أرض أو موقع لبناء معبد. ويبدو أن عدداً ملحوظاً من البوذيين الذين يعيشون في لبنان اعتنقوا الديانة المسيحية، وهذا عامل آخر كثيراً ما يتمّ تجاهله في المشهد الديني المتغيّر في لبنان.
سابعاً- ملاحظات ختامية
في لبنان، يتمتع الأشخاص بحرية اعتناق وممارسة مختلف الديانات والمعتقدات بالطريقة التي يرونها مناسبة. كما أن تغيير الدين ممكن وهو بالفعل واقع ملموس، وهذا ما يشكل تناقضاً صارخاً مع الواقع القائم في معظم البلدان الأخرى في الشرق الأوسط. كما أن الناس قادرين على الشهادة بإيمانهم والانخراط في نشاطات إرسالية أو نشاطات "دعوة". فالتنوّع الديني واقع مرئي ومسموع، سيما أن الكنائس والجوامع غالباً ما تتحاذى ويمتزج أحياناً قرع الأجراس مع الدعوة إلى الصلاة في الجامع. كما يعلن بعض اللبنانيين على الملء أنهم لاأدريين أو ملحدين، ويعبّرون عن آرائهم النقدية إزاء الدين عامةً، وهو أمر يُعتبر طبيعياً في مجتمع منفتح.
كذلك، يمثل إرث لبنان التعدّدي حصناً منيعاً في وجه مشاريع عدائية تسعى إلى فرض الهيمنة الطائفية، كما يحصل في البلدان المجاورة. وقد نشأت على مرّ قرون من الزمن ثقافة التعايش بين الأديان، وهي تساعد اليوم في بناء القدرة على الصمود في وجه التفسيرات المتطرفة للتقاليد الدينية. وبسبب الزيجات المختلطة، تتألف عائلات عديدة من أشخاص ينتمون إلى توجهات دينية مختلفة. فكثيرون يعيشون، ويتعلمون، ويعملون مع بعضهم البعض بغضّ النظر عن طوائفهم، وهذا ما يعزّز بشكل طبيعي اكتشاف المصالح المشتركة.
في سياق التناقش في كيفية صون التنوّع الديني وتنميته في وجه التهديدات الخارجية وفي ظلّ التحديات الداخلية، شعرت باستعداد مدهش لإجراء إصلاحات. قد يبدو أقلّه "مدهشاً" مقارنةً بالتوقعات النمطية التي قد يودّ بحسبها القادة الدينيون والمؤمنون في طائفة ما أن يدافعوا عن الوضع الراهن الديني والسياسي، في حين تُترك المطالبات بالإصلاح إلى أشخاص ذوي فكر "علماني" لا يهتمون كثيراً بالدين. غير أنني لمستُ درجة عالية من الوعي في صفوف القادة الدينيين أصلاً والمؤمنين بأن النظام الحالي، الذي تتداخل فيه الانتماءات الدينية مع الفرص المجتمعية أو السياسية على نحو معقّد، يؤدي إلى حالات قد تقوّض مصداقية الرسائل والمعايير الدينية. وبالتالي، من شأن تفكيك هذه الشبكة المتداخلة من الولاءات الدينية، والانتماءات السياسية، والمواقع الاجتماعية والفرص المجتمعية، أن يعزّز آفاق المواطنة المشتركة في حين يضمن إمكانية إظهار الجاذبية الداخلية للرسائل الدينية وقدرتها على الإقناع من دون مزجها بالحوافز غير الدينية. كذلك، شعرت باستعداد كبير لإنشاء الزواج المدني الاختياري في لبنان، من أجل التكيّف مع واقع الحياة العصرية على نحو أكثر صراحة وانفتاحاً. وفي إطار المناقشات مع قادة دينيين ورجال دين، قلّما شعرت بدفاعهم المستميت والواضح عن الوضع الراهن. والمخاوف من أن يقوّض الزواج المدني الاختياري في لبنان التنوّع الديني القائم إنما يعكس انعدام الثقة في القدرة الداخلية للتقاليد الدينية على الإقناع.
وتوخياً لصون هذا الإرث من التنوّع الديني الذي يتمتع به لبنان، وتنميته في ظلّ وضع إقليمي لا ينفك يزداد تعقيداً، يتعيّن على الطوائف الدينية ومنظمات المجتمع المدني أن تتعاون بشكل وثيق لبناء الثقة، بالاستناد إلى التزام مشترك بحقوق الإنسان، بما في ذلك الحق في حرية الدين أو المعتقد. ويسرّني جداً أنني رأيت مبادرات واعدة بدأت تلوح في هذا الاتجاه.