Skip to main content

البيانات المفوضية السامية لحقوق الإنسان

محاضرة في مدرسة لندن للعلوم الاقتصادية ألقتها نافي بيلاي مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان

15 شباط/فبراير 2013

حرية التعبير والتحريض على الكراهية في سياق القانون الدولي لحقوق الإنسان 

لندن
15 شباط/فبراير 2013


سيداتي وسادتي،

أود أن أشكركم على إتاحتكم لي الفرصة للتحدث عن هذا الموضوع الهام جداً ولكنه، في الوقت نفسه، مثير للجدل إلى أبعد الحدود.

لقد أثار خطاب الكراهية والادعاءات المتعلقة بخطاب الكراهية ورد الفعل العنيف إزاء خطاب الكراهية الملاحَظ، في العقد الماضي، احتكاكات ضخمة في جميع أرجاء العالم. وقد تعكس عاصفة الجدل هذه نوع العالم المقبل علينا في القرن الحادي والعشرين، الذي سنعيش فيه، على نحو متزايد، جنباً إلى جنب مع أشخاص نرى أنهم مختلفون عنا. ويعيش أكثر من نصف سكان العالم الآن في المدن؛ وتعني هذه التقاربية، مع الهجرة والإنترنت، أن خطر إثارة حفيظة شخص - قول أو فعل شيء بتجاوز حدود تحمل شخص - بلغ ذروة جديدة الآن.

ويوجد إطار راسخ للقانون الدولي بشأن هذه المسألة. ولكن الدول الأعضاء أشارت بوضوح إلى وجود حاجة شديدة إلى إرشادات أفضل بشأن الكيفية التي ينبغي تنفيذه به. وهذه مسألة بالغة الحساسية عند تناولها.

وحرية الكلام ذات أهمية حيوية للكرامة الإنسانية. وهي حجر الزاوية لكل مجتمع ديمقراطي، لأنها حق تمكيني – حق يتيح للأفراد المطالبة بتمتعهم بكل الحقوق الأخرى، من المحاكمات العادلة والانتخابات الحرة إلى الأحوال المعيشية اللائقة. ومن ثم، فإن تقييد أي نوع من الكلام أو التعبير يجب، كمبدأ أساسي، أن يظل استثناءً.

ومن ناحية أخرى، فإن الكلام يمكن أن يكون تحريضاً على فعل – فعل عنيف وكريه جداً في بعض الحالات. وأذكُر قضية نظرت فيها في عام 1998، عندما كنت أعمل قاضية في المحكمة الجنائية الدولية لرواندا. وكانت هذه القضية تمثل أسوأ حالة فعلاً: أشخاص يعملون في محطة إذاعية وصحيفة دعوا بشكل صريح تماماً إلى ارتكاب مجازر مستخدمين في ذلك كلمات شديدة الوضوح. وبسبب حالات مثل هذه، حيث الكلام يمكن أن يرتبط ارتباطاً واضحاً بفعل غير مشروع، يقتضي القانون الدولي من الدول أن تحظر كلاماً معيناً يقوض حقوق الآخرين أو سمعتهم، كما أنه يسمح، بشروط معينة، بحظر كلام على أساس أن هذا ضروري لحماية النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة.

وهناك آراء صريحة جداً بشأن هذه المسألة المتعلقة بكيفية تحقيق توازن حرية التعبير مع ضرورة حظر خطاب الكراهية. فبعض الناس يجادلون بأنه ينبغي ألا يحدث أبداً أي تقييد على الإطلاق للكلام والتعبير. ويشير آخرون – ومن المؤسف أن هذا صحيح – إلى أن القوانين التي تقيد الكلام كثيراً جداً ما تسيء السلطات استخدامها لتكميم أفواه الناقدين ولإسكات الأقليات. ويدعو عدد من الأشخاص الآخرين، على العكس من ذلك، إلى إخضاع الكلام لضوابط أكثر كثيراً. وهم يطلبون مزيداً من المعايير لحماية مجالات النشاط الإنساني الأوسع نطاقاً إلى حد بعيد من الانتقاد أو الاستخفاف أو التدقيق.

وما أعتزم أن أفعله اليوم هو، أولاً، استعراض المعايير الرئيسية للقانون لدولي لحقوق الإنسان فيما يتعلق بخطاب الكراهية، وتفحص الكيفية التي فسرتها بها الهيئات الدولية التي تشرف على تنفيذها. وبعد ذلك، سأعرض تحديين كبيرين يواجهاننا فيما يتعلق بهذه المعايير الدولية. ثالثاً، أود مناقشة الخطوات التي تم القيام بها مؤخراً لتقديم مزيد من إرشادات الخبراء بخصوص تطبيق هذه القوانين الدولية القائمة. وهذه الإرشادات ناجمة عن عملية جديرة بالملاحظة فعلاً يسرها مكتبي في عامي 2011 و2012؛ وقد بلغت هذه العملية ذروتها في خطة عمل بشأن حظر الدعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية التي تشكل تحريضاً على التمييز أو العداء أو العنف. والوثيقة، التي اعتمدها عدد من الخبراء المشهود لهم دولياً في هذا المجال، ستصدر في جنيف في غضون أسبوع واحد.

وكان قصد مكتبي من تيسير هذه الإرشادات تحقيق تنفيذ أشد فعالية للحظر الدولي المفروض على التحريض على الكراهية، مع منع القوانين والممارسات التي تقوض حرية التعبير. والقانون وحده، وأنا متأكدة من أنكم تدركون هذا، لا يمكن أن يحل مسائل اجتماعية وثقافية شديدة التعقيد من هذا النوع، والتوازن يجب أن يحققه القضاة والمحاكم، عن طريق مجموعة سوابق قضائية تلبي هذه الضرورة. بيد أنني يحدوني أمل كبير في أن الإرشادات التي تم إعدادها ستساعد في تشكيل نهج هادئ ومنسق لمعالجة هذا الموضوع الملتهب جداً.

أولاً–

يضمن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، في مادته 19، الحق في حرية الرأي والتعبير. ولكن الحق في حرية التعبير، على خلاف القانون المتعلق بالإبادة الجماعية والتعذيب والرق والجرائم ضد الإنسانية على سبيل المثال، ليس مطلقاً. ومن ثم، فإن المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية تسمح بفرض قيود معينة عندما تكون ضرورية لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم، أو لحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن المادة 20 من العهد تقضي فعلاً بحظر أية دعاية للحرب و"أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضاً على التمييز أو العداء أو العنف".

وهاتان المادتان، 19 و20، من العهد مختلفتان بل إنهما متناقضتان، وهذه حقيقة واضحة في الخلفية التاريخية لصياغتهما. فقد جرى الفصل بينهما لإبراز أن المادة 19 تضمن حرية التعبير، بينما المادة 20 تفرض بالفعل التزاماً على الدول بأن تحظر أنواعاً معينة من الكلام. بيد أنه تقرر أيضاً أن تكون هاتان المادتان متتاليتين للتشديد على العلاقة الوثيقة بينهما.

وتسعى اللجنة المعنية بحقوق الإنسان - وهي هيئة المعاهدة التابعة للأمم المتحدة التي تشرف على تنفيذ العهد – إلى تحقيق التوازن بين هاتين المادتين، لكي تتسنى حماية الأفراد من التحريض على الكراهية مع احتفاظ السلطات بأقل قدر ممكن من صلاحية التدخل في حرية التعبير. وقد أعلنت اللجنة في تعليقها العام 34 أن أي تدبير يرمي إلى تنفيذ المادة 20 – 2 يجب أن يفي بمعيار فرض القيود على حرية التعبير بموجب المادة 19 - 3. وجرى تأكيد هذا في قضية رُس ضد كندا*. ورُس، وهو مؤلف ومدرس روج لآراء معادية لليهود في منشورات وفي غرف الدراسة، طُرد من وظيفته. وادعى حدوث انتهاك للمادتين 18 و19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. وخلصت اللجنة إلى أنه لم يحدث أي انتهاك للعهد وأقرت أيضاً بأهمية القيود على حرية التعبير وبالسماح بالعمل بموجب المادة 20 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.

وثمة صك ثان، وهو الاتفاقية الدولية للقضاء على التمييز العنصري، التي اعتمدتها الجمعية العامة في عام 1965،كان بالفعل أول معاهدة دولية تناولت بشكل مباشر مسألة خطاب الكراهية. وتقتضي المادة 4 من الاتفاقية أن تعمل الدول على القضاء على كل تحريض على التمييز العنصري. ويجب إعلان أن نشر أفكار قائمة على التفوق العنصري أو الكراهية العنصرية وأعمال العنف أو التحريض على هذه الأعمال ضد أي عرق أو جماعة إثنية، وتقديم المساعدة للأنشطة العنصرية، جرائم يعاقب عليها القانون.

وفي ذلك الوقت، أعربت بعض الدول عن معارضة قوية لحظر مجرد "نشر أفكار" قائمة على التفوق العنصري أو الكراهية العنصرية، ويعزى ذلك، افتراضاً، إلى قلقها من تأثيره على حرية التعبير. وتباينت الآراء أيضاً بشأن ما إذا كان حظر التحريض بموجب القانون الجنائي ملائماً أم أن الأفضل هو التركيز على التوعية. وعاد بعض هذه الشواغل إلى الظهور في وقت لاحق في شكل تحفظات على هذه الاتفاقية. ومن الواضح أن هذه التوترات الخامدة منذ نحو خمسين سنة لا تزال لها أصداء اليوم.

وعند استعراض التقارير التي أعدتها الدول، شددت لجنة القضاء على التمييز العنصري على أهمية حظر التحريض على الكراهية. وعلى سبيل المثال، فإن اللجنة تذكر الدول باستمرار بالتزامها بحظر المنظمات، بما في ذلك وسائط الإعلام، التي تروج للتمييز العنصري وتحرض عليه. وفي إحدى الحالات، أوصت اللجنة بأن تنظر الدولة في توسيع نطاق جريمة التحريض لكي تغطي الجرائم المرتكبة بدافع الكراهية الدينية ضد مجتمعات المهاجرين. وأوصت اللجنة أيضاً بإدخال أحكام تنص على أن الدوافع العنصرية للجرائم – وفي وقت أحدث، دوافع الكراهية الدينية – ظروف مشددة. وبوجه عام، تشدد لجنة القضاء على التمييز العنصري على أن خطاب الكراهية يمكن أن يسهم في العنف العنصري، وحتى في الإبادة الجماعية.

وتُذكر التوصية 15 للجنة القضاء على التمييز العنصري، التي أُعدت في عام 1993، بأن واضعي الاتفاقية اعتبروا المادة 4 محورية في الكفاح ضد التمييز العنصري بالنظر إلى أنه كان هناك "خوف واسع الانتشار من إحياء الايديولوجيات المستبدة". وتؤكد التوصية بقوة أن حرية التعبير متوافقة مع حظر الأفكار القائمة على التفوق العنصري أو الكراهية العنصرية. ورداً على ادعاءات بعض الدول أن من غير الملائم إعلان عدم شرعية منظمة قبل قيام أعضائها بالترويج للتمييز العنصري أو بالتحريض عليه، تجد اللجنة أن الفقرة ب من المادة 4 تضع "عبئاً على كاهل هذه الدول مؤداه أن تحرص على مجابهة هذه المنظمات في أبكر وقت ممكن."

وفي قضية الجالية اليهودية في أوسلو ضد النرويج، نظرت اللجنة في قضية جماعة تُعرف باسم "بوتبويز" قامت بتنظيم مسيرة لإحياء ذكرى الزعيم النازي رودولف هيس وشاركت فيها. وألقى قائد المسيرة، السيد سيولي، خطاباً تكريماً لرودولف هيس في ذكراه. ورأت المحكمة العليا في النرويج أن المعاقبة على الموافقة على النازية وحظر المنظمات النازية يتعارضان مع حرية الكلام. بيد أن اللجنة حاجّت بأن خطاب السيد سيولي تضمن أفكاراً قائمة على التفوق العنصري أو الكراهية العنصرية، وأن الإعراب عن الاحترام لهتلر ومبادئه يجب أن يُفهم على أنه تحريض على التمييز العنصري، إن لم يكن على العنف العنصري. وخلصت اللجنة إلى أن تبرئة السيد سيولي من قبل المحكمة العليا في النرويج تنتهك الاتفاقية.

ومن الواضح أن هناك علاقة معقدة بين حرية التعبير وحظر خطاب الكراهية، الذي يقتضي التقييم على أساس كل حالة على حدة. وتزيد من تعقد هذه العلاقة أيضاً النُهج المختلفة المتعلقة بالتحريض على الكراهية في المعاهدتين الرئيسيتين. فاتفاقية القضاء على التمييز العنصري توفر حماية أبعد مدى ضد التحريض على الكراهية وإن كان ذلك ضمن النطاق الأكثر محدودية الخاص بالأمور "العنصرية" الذي تتضمنه المعاهدة، وتُعدد أشكال الحظر بتفصيل أكبر كثيراً مما يورده العهد. وبالتالي، فإن الممارسة بموجب الاتفاقية الدولية للقضاء على التمييز العنصري نزعت إلى تطبيق الحظر المفروض على التحريض على نطاق أوسع بالمقارنة بممارسة اللجنة المعنية بحقوق الإنسان.

ثانياً-

أود الآن أن أتناول تحديين كبيرين جداً يواجهان تنفيذ هذين الصكين القانونيين الأساسيين. والتحدي الأول يتعلق بالتعريف. فالتعصب وحتى النفور الشديد من الآخرين قد يكونان في بعض السياقات إحساسين مشروعين، كما هو الحال، على سبيل المثال، عندما ننتقد من قمعوا أشخاصاً ضعفاء. وبالتالي، متى يكون التعبير عن الكراهية مسموحاً به، ومتى يكون محظوراً؟ ما الشكل الذي يمكن أن يتخذه هذا التعبير؟ ما هو الحد الأدنى؟

وفي آب/أغسطس الماضي، عقدت لجنة القضاء على التمييز العنصري مناقشة مواضيعية بشأن خطاب الكراهية العنصرية نوقشت فيها هذه المسألة. واقتُرح أن تكون الحدة عاملاً رئيسياً. والحدة يمكن تحديدها بإجراء ما يلزم من بحث لتحديد من أدلى بالبيان وماذا تضمنه البيان وموعد البيان. ما مدى احتمال حدوث الضرر، وما مدى فوريته؟ هل كان المتحدث في موقع سلطة، يقود الملايين، أم أنه كان فرداً وحيداً؟

والاقتراح الداعي إلى أن تُعتبر النية أيضاً عاملاً مهماً كان أكثر إثارة للجدل بالنظر إلى أنه، بموجب اتفاقية القضاء على التمييز العنصري، يُحظر مجرد نشر مواد معينة. فهي لا تقتضي إثبات النية فيما يتعلق بالتمييز، وبالتالي فإن هذا ينطوي على إمكانية الطعن في عدد من الافتراضات بموجب قانون حقوق الإنسان. بيد أنه، في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، يمكن أن يُفهم عنصر "الدعوة" المنصوص عليه في المادة 20 على أنه يقتضي توافر النية. وقد تعلقت قضية فوريسون ضد فرنسا بحالة أستاذ جامعي طُرد من منصبه وحُكم عليه بعد ذلك بغرامة بموجب قانون غيسو الفرنسي بعد أن ادعى أن غرف الغاز في معسكرات الاعتقال النازية لم تُستخدم لإبادة اليهود. وأصدرت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان رأيها لصالح فرنسا، وعلى الرغم من أنها لم تبحث مدى انطباق المادة 20، فإن عدة آراء فردية أعربت عن القلق لأن قانون غيسو لا يقتضي توافر النية من جانب الفاعل لتحميله المسؤولية.

وثمة عامل ثالث يتعلق بتحديد حظر كلام معين هو السياق الذي أُدلي فيه بهذا الكلام. وقد تكون شكوى وردت في جريدة وطنية من أن المهاجرين يشغلون وظائف كانت تُعطى فيما سبق لأبناء البلد ملاحظة مشروعة في هذا الصدد.

بيد أن الإدلاء بالبيان ذاته خارج منزل مهاجر قد يشكل تحريضاً على الكراهية. ويمكن أن يكون سجل تاريخي لعنف أو اضطهاد مؤشراً ذا صلة بالسياق لبيان ما إذا كان الكلام ينبغي اعتباره تحريضاً على الكراهية.

والتسبيب مسألة مثيرة للاهتمام. فالتحريض على فعل ليس مماثلاً لتسبيب فعل. ومن الممكن أن يقال إن التحريض ينبغي المعاقبة عليه حتى إذا لم يتبعه أي شخص بفعل. ومع ذلك، فإن المحاكم، عند تقدير ما إذا كان كلام يحرض على الكراهية، ستبحث في كثير من الأحيان عن عوامل التسبيب. ففي قضية رُس ضد كندا، على سبيل المثال، أشارت المحكمة العليا في كندا إلى أنه جرى خلق "جو مسموم" في مجلس التعليم ذي الصلة، ربما بسبب منشورات رُس. وبالمثل، أُشير، في قضية فوريسون ضد فرنسا، إلى أن العبارات التي أدلى بها فوريسون "كانت ذات طابع يثير أو يعزز المشاعر المعادية للسامية".

ويتمثل اقتراح رئيسي آخر في الفصل بوضوح بين التعبير الذي يستهدف الأفكار – والذي يتعين حمايته – والتعبير المسيء الذي يستهدف البشر، والذي لا يجوز حمايته. وأوضحت لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان أن "مجرد اعتبار أن أشكال التعبير مهينة لشخصية عامة لا يكفي لتبرير فرض عقوبات". وبالتالي، أعربت اللجنة عن قلقها إزاء القوانين المتعلقة بمسائل مثل العيب في الذات الملكية، وإهانة الموظف العمومي، وعدم احترام السلطات، وعدم احترام العلم والرموز، والتشهير برئيس الدولة، وحماية شرف الموظفين العموميين.

ومن ثم، فإنه قد يكون من الصعب للغاية في بعض الأحيان، كما ترون، التمييز بين خطاب الكراهية والخطاب الذي لا يتعدى كونه مجرد كلام مسيء، لأنه لا يوجد تعريف لخطاب الكراهية متفق عليه بشكل جازم في القانون الدولي. وربما ينبغي ألا يكون هناك تعريف له. ولدينا، بدلاً من ذلك، عدد من النُهج الإقليمية والوطنية المختلفة اختلافاً طفيفاً. وبعض البلدان تحمي خطاب الكراهية إلا إذا كان الخطاب يحرض فعلاً على عنف وشيك، بينما توجد، في الجانب الآخر، تقييدات صارمة مفروضة على الكلام في بعض البلدان في سياق إنكار محرقة اليهود، أو، في بلدان أخرى، لحماية العقيدة أو الرموز الدينية.

والتوصل إلى تعريف قوي وواضح ومشترك لخطاب الكراهية، إذا كان مرغوباً فيه على الإطلاق، تزيده تعقيداً حقيقة أن الاتفاقية الدولية للقضاء على التمييز العنصري والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية يتناولان المسألة بطريقتين مختلفتين.

وأياً كان النظام المطبق، فإنني أرى أن من الضروري إجراء تمييز دقيق بين أشكال التعبير التي ينبغي أن تشكل جرماً بموجب القانون الجنائي؛ وأشكال التعبير غير المعاقب عليها جنائياً ولكنها قد تبرِّر رفع دعوى مدنية؛ وأشكال التعبير التي لا تستوجب إنزال جزاءات ولكنها قد تثير شواغل فيما يتعلق بالتسامح والكياسة والاحترام، مثل العنصرية في الرياضة.

ويصل بنا هذا إلى التحدي الثالث الذي نواجهه، والذي يركز على ادعاءات التجديف ومفهوم تشويه صورة الأديان.

ولن يكون قد غرب عن بال أي منكم أنه كانت هناك في المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، في الأعوام الخمسة والعشرين الماضية، تحديات متكررة وقوية أمام شتى أشكال الكلام على أساس أنها مسيئة إلى أصحاب معتقدات معينة ونظم عقائدية معينة.

وقد شكل مصطلح "تشويه صورة الأديان" عنصراً محورياً في هذه الحركة. وطوال أكثر من عقد، ظلت لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان والهيئة التي خلفتها، وهي مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، في حالة جمود في نقاش بشأن هذا المفهوم. وقد انتهى الآن هذا المأزق، واقترح الآن أن نناقش بالتحديد كيفية السعي إلى إيجاد طريقة للخروج من النزاع والتحرك نحو التوصل إلى أساس أمتن ومتفق عليه بشكل عام.

وموقف مكتبي واضح دائماً. فقانون حقوق الإنسان يحمي الأفراد والجماعات، ولا يحمي النظم العقائدية. لا يمكنك تشويه صورة دين. وينبغي، في الواقع، أن يكون من الممكن تفحص النظم العقائدية والآراء والمؤسسات، بما فيها المؤسسات الدينية، ومناقشتها علانية وحتى انتقادها بشدة. وهذا متأصل تماماً في الحق في حرية التعبير. وعلاوة على ذلك، فإن اللجنة المعنية بحقوق الإنسان رأت أن قوانين التجديف متعارضة مع العهد بالنظر إلى أنها ذات تأثير مقيد للتمتع بحرية المعتقد وللحوار والنقاش البناءين بخصوص الدين.

ومن ثم، فإن موقف مكتبي أنه لا توجد حاجة إلى تشريع إضافي يحمي النظم العقائدية من تشويه صورتها، لأن الأفراد تتوافر لهم حماية كافية بموجب المعايير القائمة وشواغل من يشعرون بالإساءة إليهم في قيمهم الدينية أو قيمهم الأخرى يمكن معالجتها على نحو واف في ظل الإطار القائم. وما نحتاج إليه هو إرشادات صحيحة لتنفيذ هذه المعايير مصحوبة بقدر كاف من الالتزام السياسي من جميع أطراف النقاش.

ثالثاً-

في آذار/مارس 2011، أنهى مجلس حقوق الإنسان، بالقرار 16/18، حالة الجمود التي كان يمر بها فيما يتعلق بهذه المسألة. ويتناول هذا القرار، الذي اعتُمد بالإجماع، التنميط السلبي، والتمييز، والتحريض على العنف، والعنف ضد الأشخاص على أساس الدين أو المعتقد. وعزز القرار الأحكام ذات الصلة المنصوص عليها في المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان وحدد إجراءات ملموسة لمكافحة هذه الآفات. وبذلك تمكن مجلس حقوق الإنسان من نقل المسألة من عاصفة الانفعال الجماهيري العاتية إلى هيئة حكومية دولية. وأياً كانت نظرتكم إلى الهيئات الحكومية الدولية، فإن هذه كانت بالنسبة لي لحظة فارقة.

وقبل اعتماد هذا القرار التاريخي، كنت قد بدأت فعلاً عملية بهدف إضفاء وضوح على النقاش. فقد بادر مكتبي بتنظيم سلسلة من حلقات عمل الخبراء رفيعي المستوى، في مختلف مناطق العالم، لدراسة التشريعات والسوابق القضائية والسياسات الوطنية المتعلقة بالمسائل ذات الصلة.

وعُقدت حلقات عمل خبراء مجموعها خمس حلقات في عامي 2011 و2012 في فيينا ونيروبي وبانكوك وسانتياغو والرباط. وشارك في حلقات العمل هذه ثلاثة مقررين خاصين للأمم المتحدة - المقرر الخاص المعني بحرية الرأي والتعبير، والمقرر الخاص المعني بحرية الدين أو المعتقد، والمقررة الخاصة المعنية بمسألة العنصرية والتمييز العنصري وكره الأجانب وما يتصل بذلك من تعصب – و45 خبيراً ينتمون إلى خلفيات ثقافية وتقاليد قانونية مختلفة. وقد سلموا بأهمية حرية التعبير، ولكنهم أيضاً أعربوا عن القلق إزاء تصاعد التعصب والتمييز والعنف على أسس عنصرية ودينية في أجزاء كثيرة من العالم. كما سلطت المداولات الضوء على مجالات التشريعات الوطنية غير الكافية وعلى الأحكام الجديدة والغامضة وغير الواضحة التي أُدخلت، والتي يمكن أن يساء استخدامها.

وقد علمت أن حكومات كثيرة، في مواجهة التحديات الحالية، استحدثت تدابير عقابية جديدة بشأن الكلام تتجاوز حظر التحريض على الكراهية المنصوص عليه في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. وعلى وجه الخصوص، قدم المشاركون أمثلة على التأثير السلبي لقوانين مكافحة التجديف؛ وأمثلة على المشاكل المتعلقة بكبح حرية الإعلام واستخدام الإنترنت؛ وأمثلة على مضايقة الصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان؛ وأمثلة على الحالات التي يُضطهد فيها أفراد الأقليات من خلال إساءة استخدام التشريعات الغامضة أو العكسية الأثر.

وتكللت حلقات العمل هذه بعقد اجتماع خبراء في الرباط في تشرين الأول/أكتوبر 2012 اعتمد خطة عمل مفصلة وقوية وشاملة. وتستكشف استنتاجات وتوصيات اجتماع الرباط الإمكانات الكاملة لقانوننا الدولي القائم، ومتى يُفهم هذا القانون ويُنفذ على النحو الصحيح. وهي، في جوهرها، تقدم مجموعة أدوات إلى جميع الجهات صاحبة المصلحة _ الدول والبرلمانات والقضاء والمجتمع المدني وكذلك فعلاً المنظمات الإقليمية والدولية – للمساعدة على تحسين تنفيذ المعايير الدولية القائمة لحقوق الإنسان.

وقد أوصت خطة العمل أيضاً بتحسين تدريب قوات الأمن والشرطة، والعاملين في إقامة العدل، فيما يتعلق بحظر التحريض على الكراهية. وسلطت الضوء على الحاجة إلى إنشاء إطار للسياسات العامة والتنظيم يعزز تعددية وسائط الإعلام، بما فيها وسائط الإعلام الجديدة، وتنوعها. واقترحت أن تقوم الأحزاب السياسية باعتماد وإعمال مبادئ توجيهية أخلاقية فيما يتعلق بسلوك ممثليها، وبصفة خاصة خطاباتهم العامة.

وتحدد خطة عمل الرباط أيضاً ست عتبات يجب بلوغها لكي يُحظر الكلام جنائياً. وهي تتضمن: السياق؛ وموقف المتكلم؛ ونية الدعوة أو التحريض؛ والمحتوى؛ والنطاق أو المدى؛ والوشوك.

وتشير خطة عمل الرباط أيضاً إلى أن الجزاءات الجنائية المتعلقة بأشكال التعبير غير القانونية ينبغي أن تُعتبر تدابير "ملاذ أخير"، لا تُطبَق إلا في حالات لها مبررات محددة بصرامة. وينبغي كذلك النظر في الجزاءات وسبل الانتصاف المدنية، بما في ذلك التعويض عن الأضرار المالية وغير المالية، إلى جانب حق التصحيح وحق الرد.

رابعاً-

وصلنا بذلك إلى الوضع الذي لا نحتاج فيه في الواقع إلى قواعد أكثر – أو قواعد أقل – فيما يتعلق بهذه المسألة. فلدينا الإطار اللازم لقياس القيود المسموح بها على حرية التعبير، وللنظر في حظر التحريض على الكراهية. وما نحتاج إليه هو فهم أفضل لهذه الأدوات والتزام أقوى بتنفيذ القواعد والمعايير القائمة.

ولا يمكنني ادعاء أن خطة عمل الرباط حسمت إلى الأبد المعادلة الدقيقة بين حرية الكلام والحماية من التحريض على الكراهية. ولا يمكنني أيضاً ادعاء أننا حققنا توافقاً عالمياً فيما يتعلق بحماية الأديان أو عدم حمايتها. بيد أنني أعتقد قعلاً أن خطة عمل الرباط تشكل عملية شديدة الأهمية علمتنا كلنا طرق تحقيق توازن أفضل بين احترام الحق البالغ الأهمية في حرية التعبير وحظر التحريض على الكراهية.

ولكن خطة عمل الرباط لن تحقق وحدها هذه المهمة الخاصة بإنشاء إطار متين لمجتمع تنوع وتسامح. وذلك لأنه لا يمكن لأي قانون تحقيقها. فالتشريع مجرد جزء من مجموعة الأدوات الأكبر التي نحتاج إليها لمواجهة تحديات خطاب الكراهية في مجتمع تنهار فيه الحدود القديمة.

ونحن نحتاج إلى قدر أكبر من التعاطف والحوار الثقافي. ومن الواضح أن زيادة مشاركة وسائط الإعلام ستكون بالغة الفائدة في هذا الصدد. ويجب أن تعتمد وسائط الإعلام الإذاعي والمطبوع مدونات قواعد سلوك لحظر استخدام العبارات العنصرية ومنع المراسلين الصحفيين من الاعتماد على القوالب النمطية، بما فيها القوالب النمطية الجنسانية. ويمكنها الالتزام بضمان استخدام قوة عاملة متنوعة، والإبلاغ على نحو واقعي ومطرد عن المواضيع الحساسة، وضمان إقامة آلية مناسبة للشكاوى. وينبغي أن تسعى وسائط الإعلام الرقمي أيضاً إلى تناول هذه المسائل.

هل يمكن للأشخاص ذوي الخلفيات والتاريخ والأديان المختلفة أن يعيشوا معاً ويظلوا مخلصين لأنفسهم دون إبعاد الآخرين؟ في عالم نقابل فيه كلنا مزيداً من الأشخاص من ثقافات أخرى أو يعتنقون أراء مختلفة جداً، قد يتمثل تحد حقيقي جداً في أن يتعلم كل منا الاحترام التام لمعتقدات واختيارات الآخرين. ويحدوني الأمل في أن تساعد خطة عمل الرباط على تعزيز التنفيذ الكامل للالتزامات الدولية، المقبولة على نطاق واسع، في مجال حقوق الإنسان، وبذلك تساعد على الخروج من حلقات الكراهية والانتقام المفرغة الكثيرة الموجودة في العالم.

شكراً لكم.

 

* رُس ضد كندا ، 18 تشرين الأول/أكتوبر 2000، البلاغ رقم 736/1997 (لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان)

الصفحة متوفرة باللغة: