Skip to main content

الخطابات المفوضية السامية لحقوق الإنسان

كلمة مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان ميشيل باشيليت، لمناسبة تخرّج طلاب كلية العلوم السياسية في جامعة باريس للشؤون الدولية

25 حزيران/يونيو 2022

سلام جماعي © صور غيتي

أدلى/ت به

مفوّضة الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان، ميشيل باشيليت

في

كلية العلوم السياسية في جامعة باريس للشؤون الدولية

حضرة رئيس الجامعة ماتياس فيشورا المحترم،
حضرة عميدة الكلية أرانتكسا غونزالس لايا المحترمة،
حضرة أعضاء الهيئة التعليمية الكرام،
حضرة الطلاب الأعزّاء وأفراد أُسَرهم الكرام،
أصدقائيّ الأحباء،

يشرّفني ويسعدني صراحةً أن أتحدّث اليوم خلال هذه المناسبة السعيدة. يا لها من أوقات مثيرة بالنسبة إليكم وإلى أسركم.

هي لحظة للتأمّل مع اقتراب أحد فصول حياتكم من نهايته.

يشرفني أن أحتفل معكم بما أنجزتموه حتّى الآن، وبالصداقات والعلاقات الجديدة التي كونتموها، وباللحظات التي ربما تساءلتم خلالها عن إمكانيّة نجاحكم، وبالمعارف والخبرات التي راكمتموها.

لقد اتخذتم قرارًا شجاعًا ببناء مستقبل في مجال الشؤون الدولية. وأنا لستُ بحاجة إلى أن أوضح لكم كم أنّ الأوضاع صعبة في العالم اليوم، وكم هي غير متوقَّعة ومرهقة.

وكم من الصعب سد الفجوات التي يبدو أنها تتوسّع بين البلدان وبين الناس. وكم من الصعب التوصل إلى اتفاق، والتساؤل عما إذا كانت جهودنا ستُحدث تغييرًا حقيقيًا أم لا.

وكم هو مربك أن تجدوا مكانكم وسط هذه الاضطرابات كلّها.

وفيما تبلغون خواتم فصل جديد من حياتكم اليوم، أود أن أحتفل معكم بما يمكنكم أن تقدّموه أنتم، أي كلّ واحد منكم كجزء من هذه المجموعة.

أود أن أحتفل بتلك المهارات والخبرات والمعارف التي يمكنكم المساهمة بها، لا تصديًا للتحديات التي نواجهها أصلاً فحسب، بل أيضًا لاستنباط طريقة عمل جديدة في سياق هذه الأوقات الحرجة للغاية من تاريخنا.

تتمتّعون بكمّ هائل من المعلومات المتاحة لكم، وبحجم أكبر بكثير مما كان متاحًا لجيلي على الإطلاق. وقد تكونون على دراية بهذه الإحصاءات: ففي كل دقيقة، يُنشَر أكثر من 500 ساعة جديدة من الفيديوهات على يوتيوب. ويتم تحميل حوالى 95 مليون صورة وفيديو يوميًا على إنستغرام، وإرسال أكثر من 300 مليار رسالة إلكترونية. ونشر أكثر من 5 ملايين تغريدة. وتتزايد كمية البيانات التي يتم إعدادها وتسجيلها ونسخها واستهلاكها عالميًا بشكل ملحوظ، ومن المتوقع أن تصل إلى 181 زيتابايت في العام 2025.

تتعلمون كيف تتنقّلون في بحر المعلومات العميق هذا، وكيف تختارون منها ما يفيدكم، وكيف تستخدمون صوتكم للتفاعل معها.

وكيف تصقل المعلومات الصحيحة والمعلومات المضللة الأفكار والقوانين والسياسات، وهذا الجانب هو من أهم التحديات التي ستواجهونها.

ويركز الكثير من النقاشات والحجج، لا سيما على وسائل التواصل الاجتماعي، على الحقيقة ومن يحملها.

ولكن اسمحوا لي أن أشارككم فكرتي التالية.

أدعوكم إلى الالتزام والمشاركة في المشروع الأوسع نطاقًا لاستعادة الثقة في المؤسسات وفي بعضنا البعض بدلاً من التركيز على إثبات ما هي "الحقيقة" ومن يحملها.

فالمعلومات المضللة تولد وتنتشر في سياق خيبات الأمل السياسية والتفاوتات الاقتصادية والاجتماعية.

وغالبًا ما تتفشّى على نطاق واسع عندما تكون المشاركة السياسية محدودة، أو في البيئات التي تقيد المعلومات الحرة وتعددية مصدرها وحرية تكوين الجمعيات والتجمع السلمي.

لذلك أدعوكم إلى استخدام مهاراتكم للنضال من أجل توسيع الحيّز المخصّص لمشاركة الأشخاص بكل تنوعهم. ويبقى السؤال حول كيفية تحويل المشاركة بحيث تصبح بخدمة الصالح العام على جميع المستويات، انطلاقًا من المستوى المحلي وصولاً إلى المستوى العالمي، سؤالًا جوهريًا للمستقبل. ففي جدول أعمالنا المشترك، دعا أمين عام الأمم المتحدة إلى إطلاق مبادرات جديدة تهدف إلى تحسين طرق الإصغاء إلى الأشخاص الذين تسعى الدول والمؤسسات الدولية على غرار الأمم المتحدة، إلى خدمتهم.

نحن بحاجة إلى أفكاركم، وإلى أصواتكم العالية للمُطالَبة بالمشاركة الشاملة والهادفة.

وفي مواجهة الكثير من المعلومات والضوضاء، أحثكم على عدم الشعور بالرضا أو التخدير، وعلى عدم اعتبار الحق في المشاركة وحرية التعبير عن نفسكم والتعاون مع الآخرين، كأمر مسلم به.

أنتم أيضًا أكثر ارتباطًا بمناطق أخرى من العالم، أكثر مما كان عليه جيلي على الإطلاق. وعلى الرغم من أهمية الاتصالات عبر الإنترنت والفرص الكثيرة التي يمكنها أن توفّرها، لا ينبغي أبدًا أن تحل محل الروابط الفعلية في الحياة الحقيقية وفي المجتمع. أدعوكم إلى الاستمرار في تغذية تلك الروابط والعلاقات.

يسعدني جدًا أن أكون قادرة على إلقاء هذه الكلمة حضوريًا، لا من خلف شاشة. أستطيع أن أرى وجوهكم وردود فعلكم، ويمكنني أن أعرف حقيقةً إن كنتم ترغبون في التواجد في مكان آخر بدلاً من هنا. يمكنني أن أشعر بطاقتكم ودوافعكم ورغبتكم في المضي قدمًا.

كونوا من الناقدين، وكونوا لطفاء، وحافظوا على فضولكم.

فهذا السعي صعب للغاية. لا يمكنني أن أقدم لكم مفتاحًا يفتح في وجهكم بابًا نحو تجربة آمنة ومخططة لها تقودكم إلى المستوى التالي. فأنا قد بدأتُ حياتي بطريقة أكثر فوضوية واضطرابًا مما كنت أتخيل. شأنها شأن حياتكم.

وجاء قراري بأن أكرّس حياتي للخدمة العامة بشكل تدريجي، في خضم هذه الاضطرابات ولربما بسببها.

فعندما كنت في الـ24 في عمري، اضطررتُ إلى الفرار من بلدي. فالعديد من الشيليين، بمن فيهم أنا وأسرتي، واجهوا انتهاكات شتّى ارتكبتها الديكتاتورية العسكرية بحقّهم، ممنها الاعتقالات التعسفية وحالات الاختفاء والتعذيب، على سبيل المثال لا الحصر. اضطررتُ على التوقّف عن الدراسة، ولم تكن لي أي فكرة عن الفترة التي سأقضيها بعيدًا على بلدي.

ورحتُ أرتجل مدة أربع سنوات. ذهبت إلى أستراليا ثم إلى ألمانيا الشرقية، وتعلمت لغات جديدة وواصلت تدريبي في مجال الطب. وعشتُ بالطبع لحظات صعبة فقدتُ خلالها الأمل فغمرني اليأس والغضب.

وعدت إلى شيلي وأنا في الـ28 من عمري، بعد أن تزوّجتُ وأنجبتُ طفلاً، وكلّي توق إلى المساهمة في ازدهار البلد الذي اشتقت إليه بكلّ جوارحي. حصلت على شهادة في الطب وعملت في منظمة غير حكومية تقدم الدعم للأطفال الذين قُتل أهلهم أو اختفوا أو عُذبوا أو سُجنوا.

ولكن، مع مرور الوقت ومع استعادة الديمقراطية، تعلمتُ أن أضع غضبي جانبًا وأن استبدله بنهج يركز على الحوار، وأن أجد أرضية مشتركة للتفاهم يمكننا من خلالها المبادرة إلى حل الانقسامات.

قناعتي وجّهتني. وقد يبدو الأمر غير مرجح، لكنني تعلمت أنه يمكنني إحداث فرق عبر الحوار، إذا ما حافظت على فهم واضح وحازم للمبادئ وتقدمت بطريقة بناءة.

لذا يمكنني أن أؤكّد لكم أنه في أوقات الأزمات، وعندما يكون المستقبل كئيبًا والخيارات شبه معدومة، تكتشفون أنّ القيم الأساسية تغنيكم.

وبغض النظر عن التحديات التي تواجهونها، تجدون أن خياراتكم مترسّخة في النزاهة والتعاطف والشجاعة.

وإذا كان هناك من درس واحد آمل أن نتعلمه جميعنا من كوفيد-19 وعواقبه الاجتماعية والاقتصادية، وتصاعد التوترات الجيوسياسية وتفاقم أزمة المناخ والهجرة والنزاعات المندلعة، فهو أننا لسنا وحدنا، بل جميعنا في المركب نفسه.

فأفعالنا تؤثر على الآخرين، ونحن بحاجة إلى بعضنا البعض.

والعدل والمساواة أساسيّان. وللتمييز والظلم عواقب بعيدة المدى.

وبمجرّد محاولة فهم وجهات نظر الآخرين،

والعمل بنزاهة من أجل النهوض بالعدالة الانتقالية وحقوق الإنسان،

والسعي الدائم إلى البناء على محبّتكم للآخرين وعلاقاتكم بهم وبجميع أشكال الحياة،

ومن خلال احترام الطبيعة التي لا تحيط بكم فحسب، بل إنّكم تشكّلون جزءًا جوهريًا منها،

ومن خلال التطلع إلى البناء والتقدم بدلاً من التدمير والهدم،

تقومون بصقل حياة مترسّخة في مبادئكم.

وعندما تغمرنا الريبة وعدم اليقين، أو عندما تهدّد المخاطر كلّ ما اعتدنا عليه، من المغري لنا أن نتمسّك أكثر بمواقفنا، مقتنعين بأنها السبيل الوحيد نحو منع الأمور من الانزلاق في الاتجاه الخاطئ أو بعيدًا عن سيطرتنا.

أدعوكم إلى القيام بعكس ذلك تمامًا، وإلى اتخاذ خطوة نحو الآخرين، حتى ولو شعرتم بعدم الارتياح أو بعدم الولاء لما تؤمنون به.

أدعوكم إلى الإصغاء إلى ما نتشاركه جميعنا وإلى التركيز عليه. وإلى محاولة التغلّب على الاستقطاب على أساس أرضيتنا المشتركة.

لدينا خطة عام 2030، التي فاوضت عليها كل دول العالم بشكل معمّق، وهي تسمح لنا بالقضاء على الفقر المدقع وعدم المساواة، وشمل المزيد من الأشخاص في فوائد التنمية.

ولدينا اتفاق باريس الذي تمّ التوقيع عليه في هذه المدينة بالذات. وهو مبني على حقيقة أن تغير المناخ من شواغل البشرية المشتركة.

وأنّ كرامة الإنسان والمساواة وحقوق الإنسان مترسّخة في صميم هذه التدابير.

وعلى الحقّ في الحياة والحرية والأمن الشخصي. والحق في التعليم وفي الصحة وفي الغذاء والمأوى والملبس والضمان الاجتماعي. والتحرّر من أي شكل من أشكال التمييز. وحرية التعبير والحق في الخصوصية. وحرية الفكر والوجدان والدين. والتحرر من التعذيب والاحتجاز والاعتقال غير المشروعين أو التعسفيين. والحق في محاكمة عادلة.

هذه هي العناصر التي تساهم في بناء مجتمعات قادرة على المواجهة والصمود، وقادرة على التغلب على التهديدات وحل النزاعات سلميًا وتيسير التقدم المستمر في الازدهار والرفاهية لجميع البشر.

تدركون تمامًا أنّ هذه هي الحقيقة. لأنّكم لمستموها في حياتكم، إما لأنكم استفدتم من العيش في مجتمعات مسالمة ومزدهرة وإما لأنكم اختبرتم وعشتم عكس ذلك تمامًا.

إن مبادئ حقوق الإنسان هي التي تبني مجتمعات أكثر استقرارًا وسلامًا وقابلية على التكيف.

فكلّ من الحوار والتعاون والاحترام يساهم في التصدّي للتحديات غير المتوقعة في المستقبل. سواء أكانت تنطوي على تحولات في المشهد الرقمي أو احتمالية العنف، فقد تم وضع مبادئ حقوق الإنسان والقانون الدولي لحقوق الإنسان من أجل حماية البشرية من الخطر.

نحتفل اليوم بإنجازاتكم، وأضم صوتي إلى صوت رئيس الجامعة وأقدّم لكم أحرّ التهاني.

وأدعوكم إلى المضي قدمًا بشجاعة ولطف، مسلحين بقناعة أن الحياة المتمحورة حول الآخرين، التي ترتكز على إنسانيتنا المشتركة، هي حياة تستحق أن نناضل من أجلها بكلّ ما أوتينا من قوّة.

أقدّم لكم جزيل الشكر، وأؤكّد لكم أنّنا بحاجة إلى أصواتكم وقوتكم في هذا الكفاح من أجل التقدم وحماية الإنسانية جمعاء.

الصفحة متوفرة باللغة: