Skip to main content

البيانات المفوضية السامية لحقوق الإنسان

الحفل الافتتاحي في كلية الشؤون الدولية والعامة، جامعة كولومبيا

20 أيّار/مايو 2019

بيان مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان باشيليت

في 19 أيار/مايو 2019

حضرة العميد جاناو،
حضرة الزملاء في الكلية،
حضرة الطلاب وأفراد الأسر،
أيها الأصدقاء الأعزاء،

يشرفني أن أتحدث في هذه المناسبة السعيدة. نجتمع هنا للاحتفال بمهاراتكم ومعرفتكم، فيما تقفون على أبواب فصل جديد من حياتكم. ونحتفل بالروابط التي شكلتموها؛ والمسارات التي تتحضرون لسلوكها.

يقول لنا شوبنهاور "يمكن تشبيه الحياة إلى قطعة قماش مطرزة، يرى فيها رجل، خلال النصف الأول من حياته وجهها الصحيح، وخلال النصف الثاني وجهها المعاكس... والوجه المعاكس ليس جميلاً مثلما يبدو نظيره الصحيح، لكنه يعلِّم بدرجة أكبر؛ لأنه يبيِّن الطريقة التي تمَّ بها حبك الخيطان معاً".

بالتأكيد، كان شوبنهاور يقصد أن يقول شخصاً، وليس رجلاً تحديداً، لكنكم تفهمون وجهة النظر المطروحة هنا. وفيما تنظرون إلى الماضي، ما أن تتكون لديكم وجهة نظر كافية، في خضم الخيارات العشوائية والحوادث التي دفعت حياتكم باتجاه واحد أو آخر، هناك أيضاً أنماط ونقاط تحول. نقاط، لو لم تغيِّركم، لأصبحتم أشخاصاً مختلفين للغاية.    

عندما كان عمري 24 عاماً، كان علي الهروب من بلدي. فأبي، الذي تمَّ احتجازه وتعذيبه، توفي؛ وجرى اعتقالي مع أمي أيضاً. وتمَّ اختطاف زملائي التشيليين وإخفاؤهم وقتلهم وإساءة معاملتهم من قبل الدكتاتورية العسكرية، التي كانت تمسك بزمام السلطة. وتوقفت دراستي؛ ولم يكن لدي فكرة عن مدى فترة غيابي.

وارتجلت تصرفاتي على مدى أربع سنوات. فكل شيء لم يكن متوقعاً، ولم يحصل بطريقة جيدة دائماً. إذ ذهبت إلى أستراليا، من ثم قصدت ألمانيا الشرقية كي أتعلم لغات جديدة وأتابع تدريبي في مجال الطب. وأعلم ما معنى الشعور بالغضب والخوف، تلك اللحظات عندما يتلاشى الأمل ويجتاحك اليأس. وعندما بلغت 28 عاماً، عدت إلى تشيلي بصحبة طفل وتوق كبير إلى المساهمة في البلد الذي اشتقت إليه. ونلت شهادتي الطبية وعملت مع منظمة غير حكومية كانت تدعم الأطفال الذين تعرَّض أهلهم للاختفاء أو التعذيب. وكان كل طفل من أولئك الأطفال قد تأذى بطريقة ما، أو بطرق عدَّة، لأن الرجال في السلطة، إذ كانت كل السلطات تقريباً مؤلفة آنذاك من الرجال، اختاروا أن يكون الأمر على هذا النحو. وكان في كل شارع من الشوارع أسر تعيش في البؤس الاقتصادي والألم الذي ولَّدته الانتهاكات التي مارستها السلطات.

لقد تعلَّمت أن أطرح غضبي جانباً وأن أستبدله بنهج يركز على الحوار، وإيجاد أرضية مشتركة للتفاهم، بحيث يمكننا أن نبدأ بحلِّ الانقسامات بين المعسكرين. وتمَّ استعادة الديمقراطية في عام 1988. وانكفأت الديكتاتورية وزادت أعداد التشيليين الذين باتوا أكثر نشاطاً في مطالبهم وأكثر جرأة وأكثر انخراطاً في شبكات جديدة ضغطت باتجاه تحقيق المزيد من الحقوق والحريات. وحصلت فورة كبيرة في الطاقات الفكرية، ثقافياً واجتماعياً وسياسياً.

وأصبحت وزيرة الصحة لتشيلي في عام 2000، لأكون بذلك أول امرأة تتبوأ هذا المنصب. من ثمَّ أصبحت لاحقاً وزيرة الدفاع في عام 2002، فكنت أول امرأة تسمَّى لهذا المنصب في الأميركيتين، في بلد كان لا يزال محطماً بفعل الديكتاتورية. وقمنا بإعداد وتعزيز عمليات أخرى للمصالحة والمساءلة، بالإضافة إلى تمكين المرأة في القوات المسلحة.

وقامت تشيلي ببناء مؤسسات سليمة وديمقراطية تضمن العدالة؛ والاستقرار على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ والحد من الفقر. وواصلت بناء الثقة في نفوس الشعب، بتعزيز التعاون بين الدولة ومواطنيها، وهي الطريقة المستدامة الوحيدة لضمان التقدم من أجل الجميع. لقد شكَّل ذلك، وهو يشكل، عمليةً كبيرة، والحوار التحويلي الأوسع نطاقاً بشأن الحلول، والذي اشترك فيه العديد من الأشخاص. ويشرفني أنني ساهمت فيه. وشكلت الولايتان اللتان أمضيتهما رئيسة لبلادي فرصة كبيرة للمساهمة. ويساورني الشعور ذاته من ناحية عملي في هيئة الأمم المتحدة للمرأة، والآن، بصفتي مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان.

ولا أتحدث اليوم بصفتي المفوضة السامية لحقوق الإنسان فحسب، بل أيضاً كطبيبة أطفال؛ ورئيسة ووزيرة سابقة؛ وشخص ضليع في الشؤون العسكرية؛ وناشطة نسائية؛ وأم وجدَّة. وعندما تحضَّرت لدخول عالم البالغين، لم أكن أتوقع حصول أيٍّ من هذه الأمور. وأخبركم بهذه القصة لأنني أعلم أنكم ستواجهون أيضاً عدداً كبيراً من الخيارات. وفيما تستعدون لفتح هذا الفصل الجديد من حياتكم، قد تشعرون بعبء الحاجة إلى تحديد الغاية من حياتكم، أي الأهداف وذاك "الحلم" الأسطوري الذي يخبرونكم باستمرار أن عليكم أن تعيشوه.

وهذا مسعىً فيه الكثير من التحدي. ولا يمكنني أن أقدم إليكم مفتاحاً من شأنه أن يفتح مرحلة تجربة جديدة تكون آمنة ومخططاً لها. فحياتي كانت أكثر فوضى واضطراباً. حياتكم ستكون أيضاً كذلك. لكن يمكنني أن أقول لكم إنه في زمن الأزمات، عندما يكون هناك قلق بشأن المستقبل ولا يبدو أن هناك العديد من الخيارات الجيدة، فستجدون أن القيم الأساسية ستصقلكم، إلى حد أنه مهما كانت وجهة الرياح غير متوقعة، فستعلمون أن المسار الذي تسلكونه عبر الحياة سيكون مساراً مرفقاً بالنزاهة. واسمحوا لي بأن أقترح ما قد تكون عليه هذه المبادىء، لأننا ربما نتشارك بها.  

ومهما كان ما فعلتموه لهذه الجامعة، فقد تعلَّمتم بالتأكيد أنه لا يهم إلى أي مدى دققتم بعمق في موضوع مختص بالعلاقات الدولية، فذاك الشعور سيكون دوماً ناقصاً، لأن كل موضوع وكل بلد يرتبط بالعديد من المواضيع والبلدان الأخرى.

نحن لسنا وحدنا. فالشعوب الأخرى مهمة. والعدالة مهمة. والعنف والاستغلال والتمييز والظلم لديهم عواقب بعيدة المدى. ومن خلال محاولة النظر إلى المسائل بوضوح كامل، وفهم وجهات نظر الآخرين، ومن خلال التصرف بنزاهة، بهدف دعم العدالة وحقوق الإنسان؛ ومن خلال السعي دائماً إلى البناء على أساس محبتكم للشعوب الأخرى وكل أشكال الحياة؛ ومن خلال التطلع إلى البناء والدعم، بدلاً من التدمير، فإنكم ستشكلون حياةً لأنفسكم تتمسك بمبادئكم بثبات.

أتأمل في هذا الصف من الشباب الذين يجيدون السياسات العامة والعلاقات الدولية بطلاقة، المدرَّبين على تخصصات متعددة، مع تركيز على مختلف وجهات النظر، التي تشكل عالمنا المتعدد الأوجه. وأرى كيف تعلَّمتم تلخيص النظرية والممارسة والمعرفة الواسعة النطاق والعميقة التي حصلتموها من عدة مصادر في ما يتعلق بالرؤية والإصلاح. والعالم من حولنا مضطرب وخائف حالياً. وتتسارع وتيرة التغيير التكنولوجي والتدمير البيئي. فالبشر يحطمون كوكبنا: التغير المناخي الكارثي، وتراجع التنوع البيولوجي، والانقراضات الجماعية، والمحيطات الملوثة بالبلاستيك والتهديدات الطارئة. أما الحافز الذي يدفع بقادة العالم إلى التصدي لهذه القضايا بشكل بنَّاء ومشترك، فضعيف.

نحتاج إليكم. في الحقيقة، الأمر يعود إليكم. سيواجه جيلكم القوة الكاملة لهذا الفشل في التحرك. أو كما أنا مقتنعة بما يمكن فعله، ستغيِّرون المسار وتشكلون إجماعاً جديداً من أجل حلِّ هذه المشاكل. إن المال ليس عذراً. فكلفة العمل في مجال حقوق الإنسان أو العمل المناخي قليلة جداً، بالمقارنة مع التدمير الرهيب وكلفة عدم التصرف.

لدينا مسار لحلِّ هذه المشاكل في ما يخص تغير المناخ والنزاعات المتزايدة. لدينا خطة عام 2030، التي تمَّ التفاوض عليها بالكامل من قبل كل دولة في العالم، والتي من شأنها أن تستأصل الفقر المدقع وعدم المساواة وإدراج المزيد من الأشخاص ضمن منافع التنمية. وينص اتفاق باريس على الشروط الخاصة بالالتزامات التي تعهدت بها كل الدول من أجل تركيز العمل على تخفيف الخسائر ولديها الإمكانية لتحقيق أثر فعلي. وتعتمد كل هذه الإجراءات على دعم الكرامة الإنسانية والمساواة وحقوق الإنسان.

الحق في الحياة والحرية والأمن الشخصي. الحق في التعليم والصحة والغذاء والملجأ والملبس والضمان الاجتماعي. التحرر من أي شكل من أشكال التمييز، سواء على أساس الجنس أو العرق أو المعتقد أو الميل الجنسي أو أي عامل آخر. حرية التعبير والحق في الخصوصية. حرية الفكر والضمير والدين. التحرر من التعذيب ومن الاعتقال أو الاحتجاز غير القانوني أو العشوائي. الحق في محاكمة عادلة.

هذه الحقوق والحريات وغيرها من الحقوق والحريات الأساسية هي المكونات التي تبني مجتمعات منيعة، قادرة على الصمود في وجه التهديدات وتخطيها، وعلى حلِّ الخلافات بطريقة سلمية، وعلى تسهيل التقدم المستدام في ما يتعلق بازدهار أفرادها ورفاههم. وتعلمون أن الأمر صحيح، لأنه حصل فعلاً في حياتكم. فالأشخاص الذين استفادوا من بينكم من عيش حياة في مجتمعات سلمية ومستدامة يعيشون في بلدان تمَّ الدفاع فيها عن حقوق الإنسان.

والمبادىء الخاصة بحقوق الإنسان هي التي تبني مجتمعات أكثر استقراراً وأكثر سلماً وأكثر تأقلماً. ومع الحوار والتعاون والاحترام، تشكل دليلاً مفصلاً لمواجهة تحديات الأحداث المستقبلية التي لا يمكن توقعها. وسواء تعلَّقت هذه التحديات بالتغييرات في المشهد الرقمي أو باحتمال ارتكاب العنف، فقد تمَّ بناء مبادىء وقانون حقوق الإنسان لحماية الإنسانية من الخطر.

لذلك، في هذا الاحتفال الخاص بإنجازاتكم، وفيما تنظرون إلى ما سيأتي، أقترح أن تعيشوا وأنتم تفكرون في أبناء أحفادكم. لا يمكنكم أن تعلموا من سيكون هؤلاء الأبناء، أين سيعيشون، كيف سيبدو مظهرهم، بل حتى اللغات التي سيتكلمون بها. ولا يمكنكم أن تعلموا عدد أبناء الأحفاد وأبناء أبناء الأحفاد الذين ستحظون بهم. لكن يمكنكم العمل من أجلهم جميعاً. من أجل رفاههم وحريتهم واستدامة بيئتهم، ومن أجل حقوقهم كبشر للعيش بمساواة وكرامة.

شكراً لكم.


الصفحة متوفرة باللغة: